قوله تعالى :﴿ ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴾ الآية : ناداه المولى سبحانه بأشْرَفِ الصِّفَات البشرية، وقوله :﴿ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ [ وهو قد بَلَّغَ!! ] فأجابَ الزمخشريُّ بأن المعنى : جميعَ ما أُنزِلَ إليْكَ، أي : أيَّ شيءٍ أُنْزِلَ غير مُرَاقِبٍ في تبليغِهِ أحَداً، ولا خائفٍ أنْ يَنَالَكَ مَكْرُوهٌ، وأجاب ابن عطية بقريبٍ منه، قال :« أمَر الله رسوله بالتبليغِ على الاسْتِيفَاءِ والكمالِ؛ لأنه كان قَدْ بَلَّغَ »، وأجاب غيرُهما بأنَّ المعنى على الديمومة؛ كقوله :﴿ ياا أَيُّهَا النبي اتق الله ﴾ [ الأحزاب : ١ ] ﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ ﴾ [ النساء : ١٣٦ ].
وقوله :« مَا » يحتمل أن تكون اسميةً بمعنى « الَّذِي » ولا يجوز أن تكون نكرةً موصوفةً؛ لأنه مأمورٌ بتبليغ الجميعِ كما مَرَّ، والنكرةُ لا تَفِي بذلك؛ فإن تقديرها :« بَلِّغْ شَيْئاً أُنْزِلَ إليْكَ »، وفي « أُنْزِلَ » ضميرٌ مرفوعٌ يعودُ على ما قام مقام الفاعلِ، وتحتملُ على بُعْدٍ أن تكون « مَا » مصدريَّةً؛ وعلى هذا؛ فلا ضمير في « أُنْزِلَ » ؛ لأنَّ « مَا » المصدرية حرفٌ على الصَّحيح؛ فلا بُدَّ من شيءٍ يقومُ مقامَ الفاعلِ، وهو الجارُّ بعده؛ وعلى هذا : فيكونُ التقديرُ : بَلِّغِ الإنْزَالَ، ولكنَّ الإنزالَ لا يُبَلَّغُ فإنه معنى، إلا أن يُراد بالمصدر : أنه واقعٌ موقع المفعول به، ويجوز أن يكون المعنى :« اعلم بتبليغ الإنْزَالِ »، فيكونُ مصدراً على بابه.
والمعنى أظهر تَبْلِيغَهُ، كقوله تعالى :﴿ فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ ﴾ [ الحجر : ٩٤ ].
فصل
روي عن مَسْروق [ قال ] : قالتْ عائِشَةُ - رضي الله عنها - :« من حدَّثَكَ أنَّ مُحَمَّداً - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - كتَم شَيئاً ممّا أنْزل الله، فقد كذب » وهو سبحانه وتعالى يقول :﴿ ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴾ الآية.
ورُوِيَ عن الحسن : أنَّ الله لمَّا بَعَثَ رسولَهُ، وعرف أنَّ مِنَ النَّاس من يُكَذِّبُه، فَنَزَلَتْ هذه الآية، وقيل : نَزَلَتْ في عيب من اليَهُود وذلك أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - دَعَاهُم إلى الإسلام، فقالوا : أسْلَمْنَا قَبْلَكَ، وجعلوا يَسْتهْزِئُون بِهِ فَيَقُولُون : تريد أن نَتَّخِذَكَ حَنَاناً كما اتَّخَذَ النَّصَارى عِيسى حَنَاناً، فلمَّا رأى النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ذلك سَكَت، فنزَلَتْ هذه الآية، فأمَرَهُ أنْ يقُولَ لأهْلِ الكِتَاب :﴿ لَسْتُمْ على شَيْءٍ ﴾ [ المائدة : ٦٨ ] الآية.
وقيل : بلِّغ الإنْزَال ما أُنْزِلَ إليك من الرَّجْمِ والقِصَاصِ في قصَّةِ اليهود، وقيل : نَزَلَتْ في أمرِ زَيْنَب بِنْتِ جَحْشٍ ونِكَاحها.
وقيل : نزلت في الجِهَاد وذلك أنَّ المُنَافِقِين كَرِهوه، كما قال تعالى :﴿ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت ﴾