قوله تعالى :﴿ إِذْ قَالَ الله ﴾ فيها أوجه :
أحدها : أنه بدل من « يَوْمَ يَجْمَعُ » قال الزمخشريُّ :« والمعنى : أنه يوبِّخ الكافرين يومئذ بسؤال الرسُلِ عن إجابَتِهِمْ، وبتعديدِ ما أظْهَرَ على أيديهم من الآياتِ العظامِ، فكذَّبهم بعضُهم وسمَّوْهُم سحَرةً، وتجاوزَ بعضُهُمُ الحَدَّ، فجعله وأمَّهُ إلَهَيْنِ »، ولمَّا ذكَر أبو البقاء هذا الوجه، تأوَّلَ فيه « قَالَ » ب « يَقُولُ »، وأنَّ « إذْ »، وإنْ كانت للماضي، فإنما وقعتْ هنا [ على ] حكاية الحال.
يقولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِه :« كَأنَّكَ بِنَا وقد دخَلْنَا بلْدة كذا، وصَنَعْنَا فيه كذا »، قال - تبارك وتعالى :﴿ وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ ﴾ [ سبأ : ٥١ ]، وقال غيْرُهُ : معناه الدَّلالة على قُرْبِ القِيَامَةِ كأنَّها قَدْ قَامَتْ، وكُلُّ ما هو آتٍ آتٍ، كما يُقالُ : الجَيْشُ قد أتَى، إذا قَرُبَ إتْيَانهم قال - تبارك وتعالى - :﴿ أتى أَمْرُ الله ﴾ [ النحل : ١ ].
الثاني : أنه منصوبٌ ب « اذْكُرْ » مقدَّراً، قال أبو البقاء - رحمه الله تعالى - :« ويجوزُ أن يكون التقديرُ : اذْكُرْ إذْ يَقُولُ »، يعني أنه لا بد من تأويلِ الماضي بالمستقبلِ، وهذا كما تقرَّر له في الوجْهِ قبله، وكذا ابنُ عطيَّة تأوَّله ب « يَقُولُ » ؛ فإنه قال :« تقديرُه : اذْكُرْ يا محمَّد إذْ »، و « قَالَ » هنا بمعنى « يَقُولُ » ؛ لأنَّ ظاهر هذا القولِ، إنما هو في يوم القيامة؛ لقوله بعده ﴿ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ﴾ [ المائدة : ١١٦ ].
الثالث : أنه في محلِّ رفع خبراً لمبتدأ مضمرٍ، أي : ذلك إذْ قَالَ، ذكره الواحديُّ، وهذا ضعيفٌ؛ لأن « إذْ » لا يُتَصِرَّفُ فيها، وكذلك القولُ بأنها مفعولٌ بها بإضمار « اذْكُرْ »، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك، اللهم إلا أنْ يريد الواحديُّ بكون خبراً؛ أنه ظرفٌ قائمٌ مقام خبرٍ، نحو :« زَيْدٌ عِنْدَكَ » فيجوز.
قوله :﴿ ياعيسى ابن مَرْيَمَ ﴾ تقدَّم الكلامُ في اشتقاق هذه المفردات ومعانيها، و « ابْنَ مَرْيَمَ » صفة ل « عِيسَى » نُصِب؛ لأنه مضاف، وهذه قاعدةٌ كلية مفيدة، وذلك أنَّ المنادى المفردَ المعرفةَ الظاهرَ الضَّمَّةِ، إذا وُصِفَ ب « ابْن » أو « ابْنَة »، ووقع الابنُ أو الابنةُ بين علمَيْنِ أو اسمَيْنِ متفقَيْنِ في اللفظِ، ولم يُفْصَل بين الابْنِ وبيْنَ موصوفه بشيء، تثبت له أحكامٌ منها : أنه يجوزُ إتْبَاعُ المنادى المضمومِ لحركةِ نُونِ « ابْن » ؛ فيُفتح؛ نحو :« يَا زَيْدَ [ يا زَيْدُ ] ابْنَ عَمْرٍو، ويَا هِنْدَ [ يا هِنْدُ ] ابْنَةَ بَكْرٍ » بفتح الدال من « زَيْد » و « هِنْد » وضمِّها، فلو كانت الضمةُ مقدَّرةً نحو ما نحن فيه، فإنَّ الضمة مقدَّرة على ألفِ « عيسَى » فهل يُقَدَّر بناؤُه على الفتْحِ إتباعاً كما في الضمَّة الظاهرة؟ فيه خلاف : الجمهورُ على عدمِ جوازه؛ إذْ لا فائدة في ذلك، فإنه إنما كان للإتباع، وهذا المعنى مفقودٌ في الضمَّة المقدرة، وأجاز الفراء ذلك؛ إجراءً للمقدَّر مُجْرَى الظاهرِ، وتبعه أبو البقاء؛ فإنه قال :« يَجُوزُ أن يكون على الألِفِ من » عيسَى « فتحةٌ؛ لأنه قد وُصِفَ ب » ابْن « وهو بين عَلَمَيْنِ، وأن يكونَ عليها ضمَّةٌ، وهو مثلُ قولك :» يَا زَيْدَ [ يا زَيْدُ ] بْنَ عَمْرٍو « بفتح الدال وضمِّها »، وهذا الدي قالاه غيرُ بعيدِ، ويَشْهَدُ له مسألةٌ عند الجميع : وهو ما إذا كان المنادَى مبنيًّا على الكسرِ مثلاً؛ نحو :« يَا هَؤلاءِ »، فإنهم أجازوا في صفته الوجهيْن : الرفع والنصب، فيقولون :« يا هَؤلاءِ العُقلاَءِ والعُقَلاءُ » بنصب العقلاء ورفعها، قالوا : والرفعُ مراعاةً لتلك الضمة المقدَّرة في الإتباع، وإنْ كان ذلك فائتاً في اللفظ، وقد يُفَرَّقُ بأنَّ « هؤلاءِ » نحن مضطُّرون فيه إلى تقدير تلْكَ الحركةِ؛ لأنه مفرد معرفةٌ، فكأنها ملفوظٌ بها بخلافِ تقديرِ الفتحة هنا.


الصفحة التالية
Icon