قَالَ كَعْبُ الأحْبار - رضي الله عنه- : هذه الآيةُ [ الكريمة ] أوَّلُ آية في التوراة، وآخرُ آية في التوراة قوله تعالى :﴿ وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك ﴾ [ الإسراء : ١١١ ] الآية الكريمة.
قال ابنُ عَبَّاس - رضي الله عنهما - : فَتَحَ اللَّهُ بالحَمْدّ، فقال :« الحَمْدُ اللَّه الذي خلق السَّموات والأرضَ »، وخَتَمَهُمْ بالحَمْدِ، فقال :« وقَّضَى بَيْنُمُ بالحقِّ »، وقيل :﴿ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين ﴾ [ الرمز : ٧٥ ].
فقوله :« الحمدُ لِلِّهِ » فحمد اللِّهُ نَفْسَهُ تعليماُ لعباده، أي : احمدوا اللِّهَ الذي خَلَقَ السَّمواتِ والأرْضَ خصمها بالذِّكر؛ لأنَّهما أعْظَمُ المَخْلُوقَات فيما يرى العِبَادُ، وفيهما العبرةُ والمنافعُ للعباد.
وأعلم أنَّ المَدْحَ أعَمُّ من الحَمْدِ، والحَمْدُ أعَمُّ من الشكرِ؛ لأنَّ المْدْحَ يَحْصُلُ للعاقل وغي العاقلِ، فكما يُمْدَحُ الرَّجُلُ العاقلُ بفضله، كذلِك يُمْدَحُ اللُّؤلُؤ لحُسْنِ شَكْلِهِ، ولَطَافَة خِلْقَتِهِ، ويُمْدَحُ اليَاقُوتُ لِصَفَائه وضقَالِته.
وأمَّا الحمْدُ فلا يحصلُ إلاَّ للفعال المُخْتَارِ على ما يَصْدُرُ عنه من الإنعام، وإنَّما كونُ الحَمْدِ أعم من الشُّكْر؛ فلأنَّ الحّمْد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام، سواء كان ذلك الإنعام واصلاً إليك أو إلى غيرك.
وأمَّا الشُّكْرُ فهو عِبَارةٌ عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليكَ، وإذا عُرِفَ ذلك، فإنَّمَا لَمْ يَقُلْ : المَدْحُ لله تبارك وتعالى لأنَّا بَيَّنَّا أنَّ المَدحَ كما يَحَصُلُ للفاعل المختار، فقد يَحْصُلُ لغيره.
وأمَّا الحَمْدُ فلا يَحْصُلُ إلا للفاعل المختار، وإنَّما لم يَقُلْ :« الشُّكر لِلَّهِ » لَمَا بَيَّنَّا أنَّ الشُّكْرَ عبارة عن تعظيم تسبب إنعام صدر منه، فيكون المطلوب الأصلي، وقبول النعمة إليه، وهذه دَرَجَةٌ حقيرةٌ.
وقوله :« الحَمْدُ لِلَّهِ » يَدُلُّ على أنَّ العَبْدَ حَمَدَهُ لأجل كونه مستحقاً للحمدِ، لا لخصوص كونه - تعالى - أوْصَلَ النَّعْمَةَ إليه فَيَكُونُ الإخلاصُ.

فصل في بيان لفظ الحمد


قوله :« الحَمْدُ » لفظٌ محلَّى بالألف واللام، فيفيد أنَّ هذه الماهية للَّهِ، وذلك يَمْنَعُ من ثبوت الحَمْدِ لغير الله، وهذا يقتضي أنَّ جميع أقْسَام الحَمْدِ والثناء والتعظيم ليس إلاَّ للَّهِ تبارك وتعالى، فإن قيل : إنَّ شُكْرَ المُنْعِمِ واحب مِثلَ شُكْرِ الأسْتَاذِ على تعليمه، وشُكرِ السلطانِ على عَدْلَه، وشكر المُحسِن على إحسانه، قال ﷺ :« مَنْ لم يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ » فالواجبُ أنَّ المَحْمُودَ والمَشْكُورَ في الحقيقة هو اللَّهُ تعالى؛ لأنَّ صدور الإحسان من [ قلب ] العَبْدِ يتوقف على حُصُول داعية الإحسان في قلب العبد، وحصول تلك الدَّاعية في القلب ليس من العَبْدِ، وإلاَّ لافْتَقَرَ في حصولها إلى داعيةِ أخْرَى، ولَزِمَ التَّسلسُلُ، بل حصولها ليس إلاَّ من اللَّهِ تعالى، فتلك الدَّاعِيةُ عند حصولها يجب الفعلِ، وعند زوالها يَمْتَنعُ الفِعْلُ فيكون المحسنُ في الحقيقة لَيْسَ إلاَّ اللَّه تبارك وتعالى، فيكون المُسْتَحِقُّ لكُلِّ حَمْدٍ في الحقيقةِ هو اللَّه تعالى.


الصفحة التالية
Icon