اعلم أنَّ متعلَّق هذا بما قَبْلَه : أنَّه لا يَبْعُد ان بَعْض المُسْلمين كان إسمع قَوْل المُشْرِكين للرَّسُول - ﷺ - إنَّما جَمَعْت هذا القُرْآن من مُدارَسَة النَّاس، غَضِب، وشَتَم آلِهَتَهُم المُعَارِضة، فنهي الله - تعالى - عن ذَلِك؛ لأنَّك متى شتمت آلِهَتَهُم، غَضِبُوا، فَرُبَّما ذكر اللَّه - تبارك وتعالى - بِمَا لا يَنْبَغِي، فلذلك وَجَبَ الاحْتِرَاز عن ذَلِك المَقَال، وهَذَا تَنْبِيهٌ على أنَّ الخَصْم إذا شَافَه خَصْمَه بِجَهْل وسفاهِةٍ، لم يَجُزِ لِخَصْمه أن يُشافِهَهُ بمثل ذلك، فإن ذلك يُوجِبُ فتْح باب المُشَاتَمَةِ والسَّفاهَة، وذّلِك لا يَلِيق بالعُقلاء.

فصل في المراد بالآية


قال ابْن عبَّاس - رضي الله عنهما - لمَّا نزل قوله :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ] قال المُشْرِكُون : يا مُحَمَّد، لَتَنْتَهِيَنَّ عن سَب آلهتنا، أو لَنَهْجُرَنّ ربَّك؛ فنزلت هذه الآية، وهَهُنا إشكالان.
أحدهما : أن النَّاس اتَّفَقُوا على أن هذه السُّورة نزلت دَفْعَةً واحِدَةً، فكيْف يُمْكن أن يُقال : سبَبُ نُزُول هَذِهِ الآية الكَرِيمة كَذَا.
والثاني : أن الكُفَّار كانوا مُقِرِّين اللَّهِ - تعالى - ؛ لقوله - تبارك وتعالى - :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله ﴾ [ لقمان : ٢٥ ] وكانوا يَقُولُون : إنّما نَعْبُد الأصْنَام؛ لِتَصير شُفَعَاؤُنَا عِنْد الله، فكيف يُعْقَل إقْدَامهم على شَتمِ اللَّه وسبِّه.
وقال السُّدِّيُّ :« لما قربت وفاةُ أبي طالبِ، قالت قُرَيْشُ : ندخل عليه، ونَطْلُب منه أنْ يَنْهَي ابْن أخيه عَنَّا، فإنا نَسْتَحِي أن نَقْتُلَه بعد مَوْته، فَنَقُول العرب : كان يَمْنَعُه عَمُّه، فلما ماتَ، قتلوه؛ فانْطَلَقَ أبو سُفْيَان، وأبُو جَهْلٍ، والنَّضْرُ بن الحَرارِثِ، وأمَيَّةُ وأبَي ابنا خَلَف، وعُقْبَةُ بن أبي معيط، وعَمْرُو بن العَاصِ، والأسْوَد بن أبِي البُخْتُري إليه، وقالُوا : يا أبا طالبٍ، أنت كَبِيرُنا وسيِّدُنا، وإن محمَّداً آذَانَا وآلهتنا، فنحب أن تَدْعُوَه وتنهاه عن ذكْر آلِهَتنا، ولندعه وإلهه، فدعاه، فقال : يا مُحَمُّد، هؤلاء قَوْمُك، وبَنُو عَمِّك يطلُبُوك أن تَتْرُكَهم على دينهم، وأنْ يَتْركُوكَ على دينك، وقد أنْصَفَك قومك، فاقْبَل مِنْهم، فقال النَّبِيُّ ﷺ : أرأيْتُم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطيَّ كلمة إن تكلمتم بها مَلَكْتُم بها العرب، ودَانَت لكم بها العَجَم قال أبُو جَهْلِ : نَعَم وأبيك، لَنُعْطِيَنّكَهَا، وعشرة أمْثَالِهَا، فما هي؟
قال :»
قولوا : لا إله إلاَّ الله « فأبَوْا ونَفَرُوا، فقال أبُو طالب : قُلْ غَيْرَها يا بابْن أخي، فقال : يا عمَّ، ما أنا بالَّذِي أقُول غَيْرَها، ولَوْ أتَوْني بالشَّمْسِ فَوضَعُوها في يَدِي. فقالوا : لتكُفَّنَّ عن سب آلِهَتِنا، وأو لنَشْتُمَنَّك أو لنشتُمَنَّ من يأمرك بِذلكِ، » فأنْزَل الله - تعالى الآية الكريمة.
وفيه الإشكالان، ويمكن الجواب مِن وُجُوه :
الأول : أنه رُبَّما كان بَعْضُهُم قائِلاً بالدَّهر ونفي الصَّانع، فيأتي بهذا النَّوْع من الشَّفاعة.


الصفحة التالية
Icon