قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ ﴾ الآية.
اللام في [ قوله ] لجهنَّمَ يجوزُ فيها وجهان :
أحدهما : أنَّها لامُ الصيرورة والعاقبة، وإنَّما احتاج هذا القائلُ إلى كونها لام العاقبة كقوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [ الذاريات : ٥٦ ] فهذه علةٌ معتبرةٌ محصولة، فكيف تكون هذه العلة أيضاً؟ وأورد من ذلك أيضاً قول الشاعر :[ الوافر ]
٢٦٢٨ - لِدُوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا لِلْخَرابِ | ...................... |
٢٦٢٩ - ألاَ كُلُّ مَوْلُودٍ فَلِلْموتِ يُولَدُ | ولَسْتُ أرَى حيّاً لِحَيٍّ يُخَلَّدُ |
٢٦٣٠ - فَلِلْمَوتِ تَغْذُو الوَالِداتُ سخَالَهَا | كَمَا لِخرابِ الدُّور تُبْنَى المَسَاكِن |
فصل
ومعنى ﴿ ذَرَأْنَا ﴾ خلقنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس، أخبر الله تعالى أنه خلق كثيراً من الجن والإنس للنار، وهم الذينَ حقت عليهم الْكلمة الأزليَّة بالشّقاوة، ومن خلقه الله لجهنَّمَ، فلا حيلة له في الخَلاصِ منها.
قالت عائشةُ :« أدرك النّبيُّ ﷺ جنازة صبيٍّ من صبيان الأنْصَارِ، فقالت عائشةُ له : طُوبى لَهُ عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الجَنَّةِ. فقال ﷺ : وما يدريكِ؟ إنَّ الله خَلَقَ الجَنَّةَ وَخلَقَ لَهَا أَهْلاً وَهُمْ في أصْلابِ آبَائِهِمْ وخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلاً وهُمْ في أَصْلابِ آبائِهِمْ »
فصل
هذه الآية أيضاً تَدُلُّ على مسألة خلق الأعمالِ لأنَّهُ تعالى صرَّحَ بأنَّهُ خلق كثيراً من الجن والإنس لجهنم ولا مزيد على بيان كلام اللَّهِ، وأيضاً انه لمَّا أخبر عنهم أنَّهُم من أهل النَّارِ، فلو لم يكونوا من أهل النَّارِ انقلب علم اللَّهِ جهلاً، وخبره الصِّدق كذباً، وكل ذلك محال ومن علم كون الشَّيءِ محالاً امتنع أن يريدهُ، فامتنع أن الله تعالى يريد أن لا يدخلهم النار بل يجب أن يريد أن يدخلهم النار، وذلك هو الذي دَلَّ عليه لفظ الآية، وأيضاً إنَّ القادرَ على الكُفْرِ إن لم يقدر على الإيمان، فالذي خلق فيه القدرة على الكُفْرِ فقد أرادَ أن يدخله النار، وإن كان قادراً على الكفر والإيمان معاً؛ امتنع رجحان أحد الطَّرفين على الآخر لا لمرجح وذلك المرجح إن حصل من قبله لزم التسلسل، وإن حصل من قبل اللَّهِ تعالى، فهو المرادُ.