قوله تعالى :﴿ بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ ﴾ الآية.
الجمهور على رفع بَراءَةٌ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّها رفعٌ بالابتداء، والخبرُ قوله ﴿ إِلَى الذين ﴾ وجاز الابتداءُ بالنَّكرة؛ لأنَّها تخَصَّصَتْ بالوَصْفِ بالجارِّ بعدها، وهو قوله مِنَ اللهِ كما تقولُ رجُلٌ من بني تميم في الدَّارِ.
والثاني : أنَّها خبرُ ابتداءٍ مضمرٍ، أي : هذه الآياتُ براءةٌ، ويجوز في مِنَ اللهِ أن يكون متعلقاً بنفس براءةٌ؛ لأنها مصدرٌ، كالثَّناءة والدَّناءة. وهذه المادة تتعدَّى ب « مِنْ »، تقولُ : بَرِئتُ من فلانٍ، أبرأ براءةً، أي : انقطعتِ العُصبةُ بَيْنَنَا، وعلى هذا، فيجوزُ أن يكون المُسوِّغُ للابتداء بالنَّكرة على الوجه الأوَّل هذا. وإلى الَّذينَ متعلقٌ بمحذوف على الأوَّلِ، لوقوعهِ خبراً، وبنفس « بَرَاءَةٌ » على الثَّاني، ويقال : بَرِئْتُ، وبَرَأتُ من الدين، بالكسْرِ والفتح، وقال الواحديُّ :« ليس فيه إلاَّ لغةٌ واحدة، كسرُ العينِ في الماضي وفتحُها في المستقبل ». وليس كذلك، بل نقلهما أهلُ اللغةِ، وقرأ عيسى بن عمر « بَرَاءَةٌ » بالنصب على إضمار فعل أي اسمعُوا براءةً.
وقال ابنُ عطيَّة « أي : الزموا براءة، وفيه معنى الإغراء » وقرىء « مِن اللهِ » بكسر نون « مِنْ » على أصل التقاءِ السَّاكنينِ، أو على الإتباع لميم « مِنْ » وهل لُغَيَّةٌ، فإنَّ الأكثر فتحها مع لام التَّعريفِ، وكسرها مع غيرها، نحو « مِن ابنك »، وقد يُعْكَسُ الأمرُ فيهما، وحكى أبُو عُمَرَ عن أهل نجران أنَّهم يَقْرَءُونَ كذلِك، بكسر النونِ مع لام التَّعريف.
فإن قيل : ما السَّبب في أنَّ نسب البراءة إلى الله ورسوله، ونسب المُعاهدةِ إلى المشركين؟ فالجوابُ : قد أذن اللهُ في معاهدة المشركين، فاتفق المسلمون مع رسول الله ﷺ وعاهدهم، ثم إنَّ المشركين نقضُوا العهد؛ فأوجَبَ اللهُ النَّبْذَ إليهم، فخوطب المسلمون بما يحذرهم من ذلك، وقيل لهم : اعلموا أنَّ الله ورسوله قد برئا ممَّا عاهدتم من المشركين. روي أنَّ النبي ﷺ لمَّا خرج إلى تبوك وتخلف المنافقون، وأرجفوا بالأراجيف، وجعل المشركون ينقضون العهد، فأمر الله تعالى بنقض عهودهم، التي كانت بينهم وبين رسول الله ﷺ.
قال الزجاج :« بَراءَةٌ » أي : قد بَرِىء الله ورسولهُ من إعطائهم العهود والوفاء بها إذا نكثوا.
فإن قيل : كيف يجوزُ أن ينقض النبي ﷺ العهد؟.
فالجوابُ : لا يجوز أن ينقض العهد إلاَّ على ثلاثة أوجه :
فالأول : أن يظهر له منهم خيانةٌ مستورة ويخاف ضررهم، فينبذ العهد إليهم، حتَّى يستووا في معرفة نقض العهد، لقوله ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ ﴾ [ الأنفال : ٥٨ ] وقال أيضاً :﴿ الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ﴾


الصفحة التالية
Icon