قوله - تعالى - ﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ الآية. هذه هي الحجَّة الثانية عليهم.
فإن قيل : القوم كانوا منكرين الإعادة، والحشر، والنشر، فكيف احتجَّ عليهم بذلك؟
فالجواب : أنَّه - تعالى - قدَّم في هذه السورة ما يدلُّ عليه، وهو وجوب التمييز بين المُحْسِن والمُسيءِ، وهذه الدَّلالة دلالةٌ ظاهرةٌ قويَّة، لا يمكن للعاقل دفعها؛ فلأجْلِ قُوَّتها، وظهورها تمسَّك بها، سواء الخَصْم عليها، أو لا.
فإن قيل : لِمَ أمر رسوله أن يعترف بذلك، والإلزام إنَّما يحصلُ لو ا عترف الخصمُ به؟.
فالجوابُ : أنَّ الدَّليل لمَّا كان ظاهراً جليّاً، فإذا أورد على الخَصْم في معرض الاستفهام، كأنَّه بنفسه يقول : الأمر كذلك، فكان هذا تنبيهاً، على أنَّ هذا الكلام بلغ في الوُضوح، إلى حيث لا حاجة فيه إلى إقرار الخصم به، وأنَّه سواء أقرَّ، أو أنكَرَ، فالأمرُ متقرِّر ظاهرٌ.
قوله :﴿ قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ﴾ : هذه الجملةُ جوابٌ لقوله :﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾، وإنَّما أتى بالجواب جملة اسمية، مصرَّحاً يجزأيها، مُعَاداً فيها الخبر، مطابقاً لخبر اسم الاستفهام؛ للتأكيد، والتَّثبيتِ، ولمَّا كان الاستفهام قبل هذا، لا مندوحة لهُم عن الاعتراف به، جاء الجملةُ محذوفاً منها أحدُ جزأيها، في قوله :﴿ فَسَيَقُولُونَ الله ﴾ [ يونس : ٣١ ]، ولم يَحْتَجْ إلى التَّأكيد بتصريح جزأيها.
فصل
قال القرطبيُّ : ومعنى الآية :﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ﴾ ينشئه من غير أصل، ولا سبق مثال :« ثُمَّ يُعِيدُهُ » : يُحْييه بعد الموت كهَيْئتِهِ، فإن أجابُوك، وإلاَّ ف ﴿ قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾، ثم قال :﴿ فأنى تُؤْفَكُونَ ﴾ أي : تصرفون عن قصد السَّبيل، والمُراد : التَّعجُّب منهم في الدُّنْيَا من هذا الأمر الواضح الذي دعاهُم الهوى والتَّقليد إلى مخالفته؛ لأنَّ الإخبار عن كون الأوثان آلهةً كذب، وإفكٌ الاشتغال بعبادتها، مع أنَّها لا تستحق العبادة أيضاً إفكٌ.
قوله تعالى :﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق ﴾ الآية.
وهذه حجَّة ثالثة. واعلم أنَّ الاستدلالَ على وجودِ الصَّانع بالخلق أولاً، ثم بالهداية ثانياً، عادة مُطَّردة في القرآن، قال - تعالى - حكاية عن الخليلي ﷺ :﴿ الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴾ [ الشعراء : ٧٨ ]، وحكى عن موسى - ﷺ - في جواب لفرعون :﴿ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى ﴾ [ طه : ٥٠ ]، وأمر محمَّداً - ﷺ - فقال :﴿ سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى ﴾ [ الأعلى : ١-٣ ].
واعلم أنَّ الإنسان له جسدٌ وروحٌ، فالاستدلال على وجود الصَّانع بأحوال الجسد، هو الخلق، والاستدلال بأحوال الرُّوح، هو الهدايةُ.
والمقصودُ من خلق الجسدِ : حصول الهداية للرُّوح، كما قال - تعالى - :﴿ والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾