قوله :﴿ أتى أَمْرُ الله ﴾ في « أتَى » وجهان :
أشهرهما : أنه ماضٍ لفظاً مستقبل معنى، إذ المراد به يوم القيامة، وإنَّما أبرز في صورة ما وقع وانقضى تحقيقاً له ولصدق المخبر به.
والثاني : أنَّه على بابه.
والمراد به مقدماته وأوائله، وهو نصر رسول الله ﷺ، أي : جاء أمر الله ودنا وقرب.
وقال ابن عرفة :« تقول العرب : أتاك الأمرُ وهو متوقَّع بعد أي : أتى امر الله وعداً فلا تستعجلوه وقوعاً ».
وقال قومٌ : المراد بالأمر ههنا عقوبة المكذِّبين والعذاب بالسيف وذلك أنَّ النَّصر بن الحارث قال :﴿ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ] فاستعجل العذاب فنزلت هذه الآية، وقتل النضر يوم بدر صبراً.
وقال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما- : قوله تعالى :﴿ اقتربت الساعة ﴾ [ القمر : ١ ] قال الكفار بعضهم لبعض : إنَّ هذا يزعمُ أنَّ القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتَّى [ ننظر ] ما هو كائن، فلما لم ينزل، قالوا : ما نرى شيئاً، [ فنزل قوله تعالى ] ﴿ اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ﴾ [ الأنبياء : ١ ] فأشفقوا، فلما امتدَّت الأيام، قالوا : يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوِّفنا به، فنزل قوله تعالى ﴿ أتى أَمْرُ الله ﴾ فوثب رسول الله ﷺ ورفع الناس رءوسهم وظنُّوا أنها قد أتت حقيقة، فنزل قوله ﴿ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ فاطمأنُّوا.
والاستعجال : طلب الشيء قبل حينه. واعلم أنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - لمَّا كثر تهديده بعذاب الدنيا والآخرة ولم يروا شيئاً نسبوه إلى الكذب فأجابهم الله - تعالى - بقوله ﴿ أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ وتقرير هذا الجواب من وجهين :
أحدهما : أنه وإن لم يأتِ العذاب ذلك الوقت إلاَّ أنه واجب الوقوعِ، والشيءُ إذا كان بهذه الحالة والصِّفة فإنه يقال في الكلام المعتاد : إنه قد أتى ووقع إجراء لما يجب وقوعه مجرى الواقع، يقال لمن طلب الإغاثة وقرب حصولها جاء الفوت.
والثاني : أن يقال : إنَّ أمر الله بذلك وحكمه قد أتى وحصل ووقع، فأمَّا المحكوم به فإنَّما لم يقع، لأنَّ الله - تعالى - حكم بوقوعه في وقتٍ معينٍ فلا يخرج إلى الوجود قبل مجيء ذلك الوقت، والمعنى : أن أمر الله وحكمه بنزولِ العذاب قد وجد من الأزلِ إلى الأبدِ إلاَّ أنَّ المحكومَ إنَّما لم يحصل، لأنَّه - تعالى - خصَّص حصوله بوقتٍ معيَّنٍ ﴿ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ قبل وقته، فكأنَّ الكفار قالوا : سلَّمنا لك يا محمد صحة ما تقول : من أنَّه - تعالى - حكم بإنزال العذاب علينا إمَّا في الدنيا وإمَّا في الآخرة، إلاَّ أنا نعبد هذه الأصنام لتشفع لنا عند الله فنتخلص من العذاب المحكوم به فأجابهم الله - تعالى - بقوله ﴿ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.


الصفحة التالية
Icon