في النظم وجوهٌ :
أولها : أنه تعالى لمَّا قرَّر الإلهيَّات والمعاد، والنبوة، أردفها بذكر الآية بالطَّاعات، وأشرفُ الطَّاعات بعد الإيمان الصلاة، فلهذا أمر بها.
وثانيها : أنه تعالى، لمَّا قال :﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض ﴾ [ الإسراء : ٧٦ ].
أمره تعالى بالإقبال على عبادته؛ لكي ينصره الله، فكأنَّه قيل : لا تبالِ بسعيهم في إخراجك من بلدك، ولا تلتفت إليهم، واشتغل بعبادة الله، والدوام على الصلاة؛ فإنه تعالى يدفع مكرهم وشرَّهم عنك، ويجعل يدك فوق أيديهم، ودينك عالياً على أديانهم.
نظيره قوله تعالى :﴿ فاصبر على مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار لَعَلَّكَ ترضى ﴾ [ طه : ١٣٠ ].
وقال تعالى :﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين ﴾ [ الحجر : ٩٧-٩٩ ].
وثالثها : أنَّ اليهود، لمَّا قالوا له : اذهب إلى الشَّام، فإنه مسكن الأنبياء، وعزم رسول الله ﷺ على الذَّهاب إليه، فكأنَّه قيل له : المعبودُ واحدٌ في كلِّ البلاد، وما النصر والقوَّة والدولة إلا بتأييده ونصرته، فدوام على الصَّلوات، وارجع إلى مقرِّك ومسكنك، فقل :﴿ رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ﴾ [ الإسراء : ٨٠ ] في تقرير دينك، وإظهار شريعتك.
قوله تعالى :﴿ لِدُلُوكِ ﴾ : في هذه اللام وجهان :
أحدهما : أنها بمعنى « بَعْدَ » أي : بعد دلوكِ الشمسِ، ومثله قولُ متمِّم بن نويرة :[ الطويل ]

٣٤٤٨- فَلمَّا تَفرَّقْنَا كأنِّي ومَالِكاً لطُولِ اجتِماعٍ لمْ نَبِتْ لَيْلةً مَعَا
ومثله قولهم :« كَتبْتُه لثلاثٍ خَلوْنَ ».
والثاني : أنها على بابها، أي : لأجل دلوك، قال الواحديُّ :« لأنَّها إنَّما تجبُ بزوالِ الشَّمسِ ».
والدُّلُوك : مصدر دلكتِ الشمس، وفيه ثلاثة أقوالٍ :
أشهرها : أنه الزَّوالُ، وهو نصفُ النَّهار. وهو قول ابن عباس - رضي الله عنه - وابن عمر، وجابر، وعطاء، وقتادة، ومجاهدٍ، والحسنِ، وأكثر التَّابعين - رضي الله عنهم-.
روى الواحديُّ في « البسيط » عن جابر - رضي الله عنه - قال : طَعِمَ عندي رسول الله ﷺ وأصحابه، ثم خرجوا حين زالتِ الشمس؛ فقال النبي ﷺ :« هذا حين دلكت الشَّمسُ ».
ورُوِيَ عن النبيِّ ﷺ أنه قال :« أتَانِي جِبْريلُ صلوات الله عليه لدُلوكِ الشَّمسِ، حينَ زَالتِ الشَّمْسُ؛ فصّلَّى بِي الظُّهْرَ ».
وقال أهل اللغة : الدُّلوكُ في كلام العرب : الزَّوال، ولذلك قيل للشمس، إذا زالت نصف النهار : دالكة، وقيل لها، إذا أفلت : دالكة؛ لأنها في الحالتين زائلة، قاله الأزهريُّ.
وقال القفال : أصلُ الدُّلُوك : الميل؛ يقال : مالتِ الشمس للزَّوال، ويقال : مالت للغُروب.
وإذا ثبت ذلك، وجب أن يكون المراد من الدلوك ها هنا الزَّوال عن كبد السماء، لأنَّه تعالى علَّق إقامة الصلاة بالدُّلوك، والدُّلوك عبارة عن الميل والزَّوال؛ فوجب أن يقال : إنه أوَّل ما حصل الميل والزَّوال، تعلق به هذا الحكم.


الصفحة التالية
Icon