قوله تعالى :﴿ تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ ﴾ الآية. اعلم أنه تعالى تكلم في هذه السورة في التوحيد والنبوة وأحوال القيامة ثم ختمها بذكر العباد المخلصين المؤمنين. قال الزجاج :« تبارك » تفاعل من البركة. والبركة كثرة الخيرة وزيادته، وفيه معنيان :
أحدهما : تزايد خيره وتكاثره. قال ابن عباس : معناه : جاء بكل بركة، قال تعالى :﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا ﴾ [ إبراهيم : ٣٤ ].
والثاني : قال الضحاك : تعظّم الذي نزل الفرقان، أي : القرآن على عبده. وقيل : الكلمة تدل على البقاء، وهو مأخوذ من بروك البعير، ومن بروك الطير على الماء. وسميت البركة بركة، لثبوت الماء فيها، والمعنى : أنه سبحانه باق في ذاته أزلاً وأبداً ممتنع التغير، وباق في صفاته ممتنع التبدل.
فإن قيل : كلمة « الذي » موضوعة في اللغة للإشارة إلى الشيء عند محاولة تعريفه بقضية معلومة، وإذا كان كذلك فالقوم ما كانوا عالمين بأنه - سبحانه - الذي نزل الفرقان. فالجواب : أنه لما ظهر الدليل على كونه من عند الله، فلقوة الدليل وظهوره أجراه مجرى المعلوم.

فصل


وصف القرآن بالفرقان، لأنه فرق بين الحق والباطل في نبوة محمد - عليه السلام - وبين الحلال والحرام، أو لأنه فرق في النزول كقوله :﴿ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ ﴾ [ الإسراء : ١٠٦ ]، وهذا أقرب، لأنه قال :﴿ نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ ﴾ ولفظة « نزل » تدل على التفريق، ولفظة « أنزل » تدل على الجمع، ولهذا قال في سورة آل عمران :﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق ( مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) ﴾ [ آل عمران : ٣ ] ﴿ وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل ﴾ [ آل عمران : ٣ ]. والمراد بالعبد ههنا محمد - ﷺ -.
قوله :« ليكون ». اللام متعلقة ب « نزَّل »، وفي اسم « يكون » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه ضمير يعود على « الَّذِي نزّل »، أي : ليكون الذي نزل الفرقان نذيراً.
الثاني : أنه يعود على « الفرقان » وهو القرآن، أي : ليكون الفرقان نذيراً ( أضاف الإنذار إليه كما أضاف الهداية إليه في قوله :﴿ إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي ﴾ [ الإسراء : ٩ ] وهذا بعيد؛ لأن المنذر والنذير من صفات الفاعل للتخويف، ووصف القرآن به مجاز، وحمل الكلام على الحقيقة أولى ).
الثالث : أنه يعود على « عبده »، أي : ليكون عبده محمد - ﷺ - نذيراً. وهذا أحسن الوجوه معنى وصناعة لقربه مما يعود عليه الضمير على أقرب مذكور. و « لِلعَالَمِين » متعلق ب « نَذِيراً »، وإنما قدم لأجل الفواصل، ودعوى إفادة الاختصاص بعيدة، لعدم تأتيها هنا، ورجح أبو حيان عوده على « الذي »، قال : لأنه العمدة المسند إليه الفعل، وهو من وصفه تعالى كقوله :


الصفحة التالية
Icon