قوله تعالى :﴿ الم غُلِبَتِ الروم ﴾ وجه تعلق هذه السورة بما قبلها أن الله تعالى لما قال :﴿ وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ وكان يجادل المشركين بنسبتهم إلى عدم العقل كما في قوله :﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾ [ البقرة : ١٨ ] وكان أهل الكتاب يوافقون النبي والإله كما قال :﴿ وإلهكم وَاحِدٌ ﴾ [ العنكبوت : ٤٦ ] وكانوا يؤمنون بكثير مما يقوله، بل كثير منهم كانوا مؤمنين ( به ) كما قال :﴿ فالذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ [ العنكبوت : ٤٧ ] أبغض المشركون أهل الكتاب وتركوا مراجعتهم وكانوا من قبل يراجعونهم في الأمور، وكان بين فارس والروم قتال والمشركون يودون أن تغلب فارس الروم لأن أهل فارس كانوا مجوساً آمنين، والمسلمين يَودُّون غلبة الروم على فارس لكونهم أهل كتاب فبعث « كسرى » جيشاً إلى الروم واستعمل عليهم رجلاً ( يقال له : شهريار وبعث « قيص » جيشاً واستعمل عليهم ) رجلاً يدعى يحانس، فالتقيا باذْرِعاتَ، وبُصْرَى، وقال عكرمة : هي أذرعات وكسكر، وقال مجاهد : أرض الجزيرة، وقال مقاتل : الأردن وفلسطين هي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم فغلبت فارس الروم فبلغ ذلك المسلمين بمكة، فشق ذلك عليهم وفرح به كفار مكة وقالوا للمسلمين : إنكم أهل الكتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أمّيُّون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الرُّوم وإنكم إن قاتلتمونا لنَظْهَرَنَّ عليكم فأنزل الله هذه الآيات لبيان أن الغلبة لا تدل على الحق بل الله قد يريد في ثواب المؤمنين من يبتليه، ويسلط عليه الأعادي، وقد يختار تعجيل العذاب الأدنى العذاب الأكبر قبل يوم الميعاد.

فصل


قد تقدم أن كل سورة افْتُتِحَتْ بحروف التَّهَجِّي فَإِن في أولها ذكرَ الكتاب أو التنزيلَ أو القرآنَ، كقوله :﴿ الم. ذلك الكتاب ﴾ ﴿ المص. كتاب ﴾ ﴿ طه ما أنزلنا عليك القرآن ﴾ ﴿ الم. تنزيل الكتاب ﴾ ﴿ حم. تنزيل من الرحمن الرحيم ﴾ ﴿ يس. والقرآن ﴾ ﴿ ق. والقرآن ﴾ إلا هذه السورة وسورتين أخريين ذكرناهما في العنكبوت، وذكرنا الحكمة منهما هناك. وأما ما يتعلق بهذه السورة فنقول : إن السورة التي في أوائلها التنزيل والكتاب والقرآن في أوائلها ذكر ما هو معجزة فقدمت عليها الحروف على ما تقدم بيانه في العنكبوت، وهذه في أوائلها ذكر ما هو معجز وهو الإخبار عن الغيب، فقدمت الحروف التي لا يعلم معناها ليتنبه السامع فيقبل بقلبه على الاستماع لما ترد عليه المعجزة ويفزع للاستماع.
قوله :﴿ في أدنى الأرض ﴾ زعم بعضهم أن « أل » عوض عن الضمير، وأن الأصل ﴿ فِي أَدْنَى أرْضهم ﴾ وهو قول كُوفي، وهذا على قول إن الهرب كان من جهة بلادهم، وأما من يقول : إنه من جهة بلاد العرب فلا يتأتى ذلك. وقرأ العامة « غُلِبَتْ » مبنياً للمفعول، وعلي بن أبي طالب وأبو سعيد الخُدْري وابن عمر وأهل الشام ببنائه للفاعل.


الصفحة التالية
Icon