قوله تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ... ﴾ معناه أن هؤلاء الكفار الذين يجادلون في آيات الله وحصل الكِبْر العظيم في صدورهم، إنما كان السبب في ذلك طلب الرياسة والتقديم على الغير في المال والجاه ومن ترك الانقياد على الحق طلباً لهذه الأشياء فقد باع الآخرة بالدنيا وهذه طريقة فاسدة؛ لأن الدنيا ذاهبة واحتج بقوله تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض... ﴾ يعني لو ساروا في أطراف الارض لعرفوا أن عاقبة المتكبرين والمتمردين ليس إلا الهلاك والبَوَار مع أنهم كانوا أكثر عَدَداً وعِدَداً ومالاً من هؤلاء المتأخرين، فلما لم تُفِدْهُمْ تلك المُكْنَةُ العظيمة إلا الخَيْبَة والخَسَار فكيف حال هؤلاء الفقراء المساكين؟!.
قوله :﴿ فما أغنى عنهم ﴾ يجوز في « ما » أن تكون نافية واستفهامية بمعنى النفي، ولا حاجة إليه وقوله « مَا كَانُوا » يجوز أن يكون « ما » مصدرية، ومحلها الرفع أي مَكْسُوبُهُمْ أو كَسْبُهُمْ ويجوز أن يكون بمعنى الذي فلا عائد على الأول وعلى الثاني هو محذوف أي يكسبونه وهي فاعل « بأَغْنَى » على التقدِريرين.
قوله :﴿ عِندَهُمْ مِّنَ العلم ﴾ فيه أوجه :
أحدهما : أنه تهكم بهم، والمعنى ليْسَ عندهم عِلْم.
الثاني : أن ذلك جاء على زَعْمِهِمْ أنَّ عندهم علماً ينتفعون به.
الثالث : أن « مِنْ » بمعنى بدل أي بما عندهم من الدنيا بدل العلم.
الرابع : أن يكون الضمير للرسل، أي فَرِحَ الرسل بما عندهم من العلم.
الخامس : أن الأول للكفار، وأما الثاني لِلرسل، ومعناه فرح الكفار فَرَحَ ضَحِكٍ واستهزاءٍ بماعند الرسل من العلم؛ إذ لم يأخذوه بقبول ويمتثلوا أوامر الوحي ونواهيه. وقال الزمخشري : وَمِنْهَا أي من والوجوه أن يوضع قوله :﴿ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم ﴾ مبالغة في نفي فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والمسرة مع تهكم بفَرْطِ خُلُوِّهم من العلم وجهلهم.
قال أبو حيان : ولا يعبر بالجملة الظاهر كونها مثبتة عن الجملة المنفية إلا في قليل من الكلام، نحو :« شَرٌّ أهَرَّ ذا ناب » على خلاف فيه، ولما آل أمره إلى الإثبات المحصور جاز. وأما في الآية فينبغي أن لا يحمل على القليل لأن في ذلك تخليطاً لمعاني الجمل المتباينة.

فصل


قال المفسرون : الضمير في قوله :« فَرِحُوا » يحتمل أن يكون عائداً على الكفار وأن يكون عائداً إلى الرسل فإن عاد إلى الكفار، فذلك العلم الذي فرحوا به قيل : هو الأشياء التي كانوا يسمونها علماً، وهي الشبهات المحكيّة عنهم في القرآن، كقولهم :﴿ وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر ﴾ [ الجاثية : ٢٤ ] وقولهم :﴿ لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا ﴾ [ الأنعام : ١٨٤ ] وقولهم :﴿ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٨ ] ﴿ وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً ﴾


الصفحة التالية
Icon