فالدنيا خلقت متعةً لبقائه، والآخرة مملكة لجزائه، وصارت الشياطين ملعونين بسبب التكبُّر عليه، والجن رعيته، والملائكة في طاعته وسجوده، والتواضع له، ثم صار بعضهم حافظين له ولذريته، وبعضهم منزلين لرزقه وبعضهم مستغفرين لزلاَّته.
وثالثها : أن آدم -E- كان أعلم، والأعلم أفضل، أما أنه أعلم فلأنه -تعالى- لما طلب منهم علم الأسماء ﴿ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ ﴾ [ البقرة : ٣٢ ] فعند ذلك قال الله :﴿ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ ﴾ [ البقرة : ٣٣ ] وذلك يدلّ على أن آدم -E- كان عالماً بما لم يكونوا عالمين به، والعالم أَفْضَلُ لقوله تعالى :﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ الزمر : ٩ ].
ورابعها : قوله تعالى :﴿ إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين ﴾ [ آل عمران : ٣٣ ] والعَالَم عبارة عن كل ما سوى الله -تعالى- فمعناه أن الله -تعالى- اصطفاهم على المخلوقات.
فإن قيل : يُشْكل بقوله تعالى :﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين ﴾ [ البقرة : ٤٧ ].
قلنا : الإشكال مدفوع؛ لأن قوله :« وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمينَ » خطاب مع الأنبياء الذين كانوا أسلاف اليهود، وحينما كانوا موجودين لم يكن محمد -عليه الصَّلاة والسَّلام- موجوداً في ذلك الزمان، والمعدوم لا يكون من العالمين؛ لأن اشتقاق العالم من العَلَمِ فكل ما كان عَلَماً على الله ودليلاً عليه فهو عالم، وإذا كان كذلك لم يلزم اصْطِفاء الله إياهم على العالمين في ذلك الوقت أن يكونوا أفضل من محمد -E- والملائكة كانوا موجودين، فيلزم أن يكون الله -تعالى- قد اصطفى هؤلاء على الملائكة، وأيضاً فهب أن تلك دَخَلَها التخصيص لقيام الدليل، وها هنا فلا دليل يوجب ترك الظاهر، فوجب إجراؤه على ظاهره في العموم.
وخامسها : قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٧ ] والملائكة من جملة العالمين، فكان محمد -عليه الصلاة والسَّلام- رحمة لهم، فوجب أن يكون أفضل منهم.
وسادسها : أنَّ الآدمي له شهوةٌ تدعوهم إلى المعصية، وهي شهوة الرئاسة.
قلنا : هَبْ أن الأمر كذلك، لكن البشر لهم أنواع كثيرة من الشهوات مثل شهوة البَطْنِ والفَرْجِ، وشهوة الرئاسة والملك ليس إلا شهوة واحدة، وهي شهوة الرئاسة، والمبتلى بأنواع كثيرة من الشهوات تكون الطاعة عليه أشقّ من المبتلى بشهوة واحدة. وأيضاً الملائكة لا يعملون إلاَّ بالنَّص لقوله :﴿ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ ﴾ [ البقرة : ٣٢ ] وقوله :﴿ لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٧ ] والبشر لهم قوّة الاسْتنباط والقياس، والعمل بالاسْتِنْبَاط أشقَ من العمل النص، وأيضاً فإن الشبهات للبشر أكثر منها للملائكة؛ لأن من جملة الشبهات القوية كون الأفلاك والأنجم السَّيَّارة أسباباً لحوادث هذا العالم، فالبَشَرُ احتاجوا إلى دفع هذه الشُّبهة، والملائكة لا يحتاجون إليها، لأنهم ساكنون في عالم السَّمَاوات، فيشاهدون كيفية افتقارها إلَى المدبّر الصَّانع، وأيضاً فإن الشيطان لا سَبِيلَ له إلى وسوسة الملائكة، وهو مسلّط على البشر في الوَسْوَسَةِ، وذلك تفاوت عظيم.


الصفحة التالية
Icon