قوله تعالى :﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية ﴾. « هل » بمعنى :« قد »، كقوله تعالى :﴿ هَلْ أتى عَلَى الإنسان ﴾ [ الإنسان : ١ ] قاله قطرب، أي : قد جاءك يا محمد حديث الغاشية، وهي القيامة؛ لأنها تغشى الخلائق بأهوالها.
وقيل : هو استفهام على بابه، ويسميه أهل البيان : التسويف، والمعنى : إن لم يكن أتاك حديث الغاشية فقد أتاك، وهو معنى قول الكلبيِّ.
وقال سعيدُ بن جبيرٍ، ومحمد بن كعبٍ : الغاشية : النار تغشى وجوه الكفار، ورواه أبو صالح عن ابن عباس لقوله تعالى :﴿ وتغشى وُجُوهَهُمْ النار ﴾ [ إبراهيم : ٥٠ ].
وقيل : المراد النفخة الثانية للبعث؛ لأنها تغشى الخلق.
وقيل : الغاشية أهل النار يغشونها، ويقحمون فيها.
وقيل : معنى « هَل أتاكَ » أي : هذا لم يكن في علمك، ولا في علم قومك، قاله ابن عباس أي : لم يكن أتاه قبل ذلك على التفصيل المذكور.
قوله :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ﴾. قد تقدَّم نظيره في سورة « القيامةِ »، وفي « النازعات »، والتنوين في « يومئذ »؛ عوض من جملة، مدلول عليها باسم الفاعل من « الغاشية »، تقديره : يومئذ غشيت الناس؛ إذ لا تتقدم جملة مصرح بها، و « خاشعة » وما بعدها صفة.

فصل في تفسير الآية


قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لم يكن أتاه حديثهم، فأخبره عنهم، فقال تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ﴾ أي : يوم القيامة، ﴿ خَاشِعَةٌ ﴾.
قال سفيان : أي : ذليلةٌ بالعذاب، وكل متضائل ساكن خاشع.
يقال : خشع في صلاته إذا تذلل ونكس رأسه، وخشع الصوت : إذا خفي، قال تعالى :﴿ وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن ﴾ [ طه : ١٠٨ ].
[ والمراد بالوجوه أصحاب الوجوه.
قال قتادة وابن زيد : خاشعة أي في النار، والمراد بالوجوه وجوه الكفار كلهم قاله يحيى بن سلام. وقال ابن عباس : أراد وجوه اليهود والنصارى ].
قوله تعالى :﴿ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ﴾ هذا في الدنيا؛ لأن الآخرة ليست دار عمل، فالمعنى : وجوه عاملة ناصبة في الدنيا خاشعة في الآخرة.
قال أهل اللغة : يقال للرجل إذا دأب في سيره : قد عمل يعمل عملاً، ويقال للسحاب إذا دام برقُه : قد عمل يعمل عملاً.
وقوله :« ناصبةٌ » أي : تعبةٌ، يقال : نَصِبَ - بالكسر - ينصبُ نصَباً : إذا تعب ونَصْباً أيضاً، وأنصبه غيره.
قال ابنُ عباسٍ : هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية الله تعالى، وعلى الكفر مثل عبدة الأوثان، والرهبان، وغيرهم، ولا يقبل الله - تعالى - منهم إلاَّ ما كان خالصاً له.
وعن علي - رضي الله عنه - أنهم الخوارج الذين ذكرهم رسول الله ﷺ فقال :« تُحقِّرُونَ صَلاتكُمْ مَعَ صَلاتهِمْ، وصِيامَكُمْ مَعَ صِيَامهِمْ، وأعْمالَكُمْ مَعَ أعْمَالهِمْ، يَمرقُونَ من الدِّينِ كما يَمْرقُ السَّهْمُ من الرميّّة »


الصفحة التالية
Icon