قال : أبو حيان والمنقول عن الكوفيين عكس هذا الإعراب، أي : يكون « إخراجهم » متبدأ مؤخراً، « محرم » خبر مقدم قّدِّم مع الفَصْل كما تقدم، وهو الموافق للقواعد، ولا يلزم منه الإخبار بمعرفة عن نكرة من غير ضرورة تدعو إلى ذلك.
التاسع : نقله ابن عطيّة أيضاً عن بعضهم أن « هو » الضمير المقدر في « محرم » قدم وأَظْهِر.
قال الشيخ : وهذا ضعيف جدّاً؛ إذ لا ضرورة تدعو إلى انفصال هذا الضمير بعد اسْتِتَارِهِ وتقديره، وأيضاً فإنه يلزم خلوّ اسم المفعول من ضمير؛ إذ على هذا القول يكون « محرم » خبراً مقدماً، و « إخراجهم » متبدأ مؤخراً ولا يوجد اسم فاعل، ولا مفعول خالياً من الضمير إلاَّ إذا رفع الظَّاهر، ثم يبقى هذا الضمير لا ندري ما إعرابه، إذ لا يجوز مبتدأ، ولا فاعلاً مقدماً وفي قول الشيخ :« يلزم خُلُّوه من ضمير » نظر؛ إذ هو ضمير مرفوع به، فلم يخل منه غاية ما في الباب أنه انفصل للتقديم.
وقوله :« لا ندري ما إعرابه » ؟ قد دري، وهو الرفع بالفاعلية.
وقوله : والفاعل لا يقدم « ممنوع » فإن الكوفي يجيز تقديم الفَاعِلِ، فيحتمل أن يكون هذا القاتل يرى ذلك، ولا شكّ أن هذا قول رديء منكر لا ينبغي أن يجوز مثله في الكلام، فكيف في القرآن! فالشيخ معذور، والعجب من ابن عطية كيف يورد هذه الأشياء حاكياً لها ولم يُعَقِّبْها بنكير؟
وهذه الجملة يجوز أن تكون محذوفةً من الجمل المذكورة قبلها، وذلك أنه قد تقدم ذكر أربعة أشياء كلها محرمة وهي قوله : تقتلون أنفسكم وتخرجون [ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ ]، وتظاهرون، وتفادون فيكون التقدير : تقتلون أنفسكم وهو محرّم عليكم قتلها وكذلك مع البواقي.
ويجوز أن يكون خصّ الإخراج بذكر التحريم، وإن كانت كلها حراماً، لما فيه من معرَّة الجلاء والنّفي الذي لا ينقطع شرّه إلا بالموت والقَتْل، وإن كان أعظمَ منه إلاَّ أن فيه قطعاً للشر، فالإخراج من الدِّيَار أصعب الأربعة بهذا الاعتبار.
و « المحرم » : الممنوع، فإن التَّحريم هو المَنْع من كذا، والحَرَام : الشَّيء الممنوع منه يقال : حَرَامٌ عليك وسيأتي تحقيقه في « الأنبياء » إن شاء الله تعالى.
فصل في المراد بالكفر والإيمان في الآية
اختلف العلماء في قوله :﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ قال ابن عباس وقتادة وابن جريج :« أخراجهم كفر، وفداؤهم إيْمَان؛ لأنه ذمهم على المُنَاقضة، إذ أتوا ببعض الواجب وتركوا البعض ».
فإن قيل : هَبْ أن ذلك الأخراج كان معصيةً، فَلِمَ سماها كفراً؟ مع أنه ثبت أن العاصي لا يكفر.
فالجواب : لعلّهم صرحوا بأن ذلك الإخراج غير واجب مع أنّ صريح التوراة كان دالاً على وجوبه.