قوله تعالى :﴿ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾، أي : خسرت. وتقدم تفسير هذه المادة في سورة غافر عند قوله :﴿ إِلاَّ فِي تَبَابٍ ﴾ [ غافر : ٣٧ ]، وأسند الفعل إلى اليدين مجازاً؛ لأن أكثر الأفعال تزاول بهما، وإن كان المراد جملة المدعو عليه.
وقوله :﴿ تَبَّتْ ﴾ دعاء، ﴿ وَتَبَّ ﴾ إخبار، أي : قد وقع ما دعي به عليه؛ كقول الشاعر :[ الطويل ]

٥٣٤١- جَزانِي، جَزَاهُ اللهُ شَرَّ جزَائِه جَزاءَ الكِلابِ العَاويَاتِ وقَدْ فعلْ
ويؤيده قراءة عبد الله :« وقَدْ تبَّ »، والظَّاهر أنَّ كليهما دعاء، ويكون في هذا شبه من مجيء العام بعد الخاص؛ لأن اليدين بعض، وإن كان حقيقة اليدين غير مراد.
وقيل : كلاهما إخبار، أراد بالأول : هلاك عمله، وبالثاني : هلاك نفسه، وإنما عبر باليدين؛ لأن الأعمال غالباً تُزاول بهما.
وقيل : المراد باليدين نفسه وقد يعبر باليد عن النفس، كقوله تعالى :﴿ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ﴾ [ الحج : ١٠ ]، أي نفسك، وهذا شائع في كلام العرب يعبّرون ببعض الشيء عن كله، يقولون : أصابه يد الدهر، ويد المنايا، والرزايا، أي : أصابه كل ذلك.
قال الشاعر :[ مخلع البسيط ]
٥٣٤٢- لمَّا أكبَّتْ يَدُ الرَّزَايَا عَليْهِ نَادَى ألاّ مُجِيرُ
وقال ابن الخطيب : وعبر باليدين، إما لأنه كان يرمي النبي ﷺ بالحجارة، وقيل : المراد دينه، ودنياه وأولاده، وعقباه، أو المراد بأحدهما جر المنفعة، وبالأخرى : دفع المضرة، أو لأن اليمين سلاح، والأخرى جُنَّة.
وقل : بمعنى ماله، وبنيه، « وتَبَّ » هو نفسه وقيل :« تبَّ » يعني ولده وعقبه، وهو الذي دعا عليه رسول الله ﷺ فقال :« اللَّهمَّ سلِّط عليْهِ كَلباً من كِلابِكَ » لشدة عداوته، فافترسه الأسد.
وقرأ العامة :« لَهَب » بفتح الهاء، وابن كثير : بإسكانها.
فقيل : هما لغتان بمعنى نحو : النَّهَر والنَّهْر، والشَّعَر والشَّعْر، والبَعَر والبَعْر، والضَّجَر والضَّجْر.
وقال الزمخشري :« وهو من تغيير الأعلام، كقوله : شمس بن مالك، بالضم »، يعني أن الأصل : بفتح الشين فغيرت إلى الضم.
ويشير بذلك لقول الشاعر :[ الطويل ]
٥٣٤٣- وإنِّي لمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَعاهِدٌ بِهِ لابْنِ عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسِ بْنِ مَالِكِ
وجوز أبو حيان في « شمس » أن يكون منقولاً من « شمس » الجمع، كما جاء « أذناب خيل شمس »، فلا يكون من التغيير في شيء.
وكني بذلك أبو لهب : إما لالتهاب وجنتيه، وكان مشرق الوجه، أحمرهُ، وإما لما يئول إليه من لهب جهنم، كقولهم : أبو الخير، وأبو الشر، لصدورهما منه، وإما لأن الكنية أغلب من الاسم، أو لأنها أنقص منه، ولذلك ذكر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بأسمائهم جدون كُناهم، أو لقُبحِ اسمه؛ لأن اسمه عبد العُزَّى، فعدل عنه إلى الكنية؛ لأن الله لم يضف العبودية في كتابة إلى صنم.


الصفحة التالية
Icon