إما أن تعبدا هذا الصنم، و إما أن تقتلا هذا النفس، وإما أن تشربا هذا الخمر، فقالا : كل هذا لا ينبغي وأهون الثلاثة شرب الخمر. فأخذت منهما فواقعا المرأة، فخشيا أن يخبر الإِنسان عنهما فقتلاه، فلما ذهب عنهما السكر وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أرادا أن يصعدا إلى السماء فلم يستطيعا، وحيل بينهما وبين ذلك وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه فعجبوا كل العجب، وعرفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض، فنزل في ذلك ﴿ والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ﴾ [ الشورى : ٥ ].
فقيل لهما : اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة؟ فقالا : أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ويذهب، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له، فاختارا عذاب الدنيا فجعلا ببابل فهما يعذبان.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إن أهل سماء الدنيا أشرفوا على أهل الأرض فرأوهم يعملون بالمعاصي، فقالوا : يا رب أهل الأرض يعملون بالمعاصي! فقال الله : أنتم معي وهم غُيُبٌ عني. فقيل لهم : اختاروا منكم ثلاثة : فاختاروا منهم ثلاثة على أن يهبطوا إلى الأرض يحكمون بين أهل الأرض وجعل فيهم شهوة الآدميين، فأمروا أن لا يشربوا خمراً، ولا يقتلوا نفساً، ولا يزنوا، ولا يسجدوا لوثن. فاستقال منهم واحد فأقيل فاهبط اثنان إلى الأرض، فأتتهما امرأة من أحسن الناس يقال لها أناهيلة فهوياها جميعاً، ثم أتيا منزلها فاجتمعا عندها فأراداها، فقالت لهما : لا حتى تشربا خمري، وتقتلا ابن جاري، وتسجدا لوثني. فقالا : لا نسجد. ثم شربا من الخمر، ثم قتلا، ثم سجدا، فأشرف أهل السماء عليهما، وقالت لهما : أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما، فأخبراها فطارت فمسخت جمرة وهي هذه الزهرة، وأما هما فأرسل إليهما سليمان بن داود، فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا، فهما مناطان بين السماء والأرض.
وأخرج ابن جرير من طريق أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود وابن عباس قالا : لما كثر بنو آدم وعصوا دعت الملائكة عليهم والأرض والجبال : ربنا لا تمهلهم. فأوحى الله إلى الملائكة : أني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم، ولو تركتكم لفعلتم أيضاً. قال : فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا لعصموا، فأوحى الله إليهم : أن اختاروا ملكين من أفضلكم. فاختاروا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض، وأنزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس يسمونها بيدخت. قال : فواقعاها بالخطيئة، فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا، فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا.


الصفحة التالية
Icon