قوله تعالى ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (١٩٢)﴾
مناسبة الآيتين لما قبلهما
قال البقاعى :
ولما كان كل مميز يدعي أنه في الذروة من الرشاد نعتهم بما بين من يعتد بعقله فقال :﴿الذين يذكرون الله﴾ أي الذي ليس في خلقه لهما ولا لغيرهما شك، وله جميع أوصاف الكمال.
ولما كان المقصود الدوام وكان قد يتجوز به عن الأكثر، عبر عنه لهذا التفصيل نفياً لاحتمال التجوز ودفعاً لدعوى العذر فقال :﴿قياماً وقعوداً﴾ ولما كان أكثر الاضطجاع على الجنب قال :﴿وعلى جنوبهم﴾ أي في اشتغالهم بأشغالهم وفي وقت استراحتهم وعند منامهم، فهم في غاية المراقبة.
ولما بدأ من أوصافهم بما يجلو أصداء القلوب ويسكنها وينفي عنها الوساوس حتى استعدت لتجليات الحق وقبول الفيض بالفكر لانتفاء قوة الشهوة وسورة الغضب وقهرهما وضعف داعية الهوى، فزالت نزغات الشيطان ووساوسه وخطرات النفس ومغالطات الوهم قال :﴿ويتفكرون﴾ أي على الأحوال.
ولما كانت آيات المعرفة إما في الآفاق وإما في الأنفس، وكانت آيات الآفاق أعظم ﴿لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس﴾ [ غافر : ٥٧ ].
قال :﴿في خلق السماوات والأرض﴾ على كبرهما واتساعهما وقوة ما فيهما من النافع لحصر الخلائق فيعلمون - بما في ذلك من الأحكام مع جري ما فيهما من الحيوان الذي خلقا لأجله على غير انتظام - أن وراء هذه الدار داراً يثبت فيها الحق وينفى الباطل ويظهر العدل ويضمحل الجور، فيقولون تضرعاً إليه وإقبالاً عليه :﴿ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا ﴿ما خلقت هذا﴾ أي الخلق العظيم المحكم ﴿باطلاً﴾ أي لأجل هذه الدار التي لا تفصل فيها على ما شرعت القضايا، ولا تنصف فيها الرعاة الرعايا، بل إنما خلقته لأجل دار أخرى، يكون فيها محض العدل، ويظهر فيها الفصل.


الصفحة التالية
Icon