قوله تعالى ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (١٦٢) ﴾
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما بين تعالى ما للمطبوع على قلوبهم الغريقين في الكفر من العقاب، بين ما لنّيري البصائر بالرسوخ في العلم والإيمان من الثواب فقال :﴿لكن الراسخون في العلم منهم﴾ أي الذي هيئت قلوبهم في أصل الخلقة لقبول العلم فأبعد عنها الطبع، وجلت الحكمة، ورسخت بالرحمة، فامتلأت من نور العلم، وتمكنت بأنس الإيمان.
ولما ذكر نعت العلم المفيد لجميع الفضائل أبتعه ما نشأ عنه فقال :﴿والمؤمنون﴾ أي الذين هيئوا للإيمان ودخلوا فيه، فصار لهم خلقاً لازماً، منهم ومن غيرهم ﴿يؤمنون﴾ أي يجددون الإيمان في كل لحظة ﴿بما أنزل إليك﴾ لأنهم أعرف الناس بأنه حق ﴿وما أنزل من قبلك﴾ أي على موسى عليه الصلاة والسلام، وبسبب إيمانهم الخالص أمنوا بما أنزل على عيسى عليه الصلاة والسلام، ثم بما أنزل إليك.
ولما كانت الصلاة أعظم دعائم الدين، ولذلك كانت ناهية عن الفحشاء والمنكر، نصبت على المدح من بين هذه المرفوعات إظهاراً لفضلها فقال تعالى :﴿والمقيمين الصلاة﴾ أي بفعلها بجميع حدودها، ويجوز على بُعد أن يكون المقتضي لنصبها جعل " لكن " بالنسبة إليها بمعنى " إلا " وتضمينها لفظها، لما بينهما من التآخي، فيكون المعنى أنهم مستثنون ممن أعد لهم العذاب الأليم على معنى أن الله سبحانه وتعالى - وهو الفاعل المختار - سبق علمه بأن مقيم الصلاة بجميع حدودها لا يموت كما يموت كافر بل تناله بركتها فيسلم وهذا أعظم مدح لها والحاصل أن ( لكن ) استعيرت لمعنى ( إلا ) بجامع أن ما بعد كل منهما مخالف في الحكم لما قبله كما استعيرت " إلا " لمعنى " لكن " في الاستثناء المنقطع.