قوله تعالى ﴿ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٥) ﴾
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان إعراضهم عن النظر سبباً لتكذيبهم، وهو سبب لتعذيبهم قال :﴿فقد كذبوا﴾ أي أوقعوا تكذيب الصادق ﴿بالحق﴾ أي بسبب الأمر الثابت الكامل في الثبات كله.
لأن الآيات كلها متساوية في الدلالة على ما تدل عليه الواحدة منها ﴿لما جآءهم﴾ أي لم يتأخروا عند المجيء أصلاً لنظر ولا لغيره، وذلك أدل ما يكون على العناد.
ولما كان الإعراض عن الشيء هكذا فعل المكذب المستهزئ الذي بلغ بتكذيبه الغايةَ القصوى، وهي الاستهزاء، قال :﴿فسوف يأتيهم﴾ أي بوعد صادق لا خلف فيه عند نزول العذاب بهم وإن تأخر إتيانه ﴿أنباء ما كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿به يستهزئون﴾ أي يجددون الهزء به بغاية الرغبة في طلبه، وهو أبعد شيء عن الهزء، والنبأ : الخبر العظيم، وهو الذي يكون معه الجزاء، وأفاد تقديم الظرف أنهم لم يكونوا يهزؤون بغير الحق الكامل - كما ترى كثيراً من المترفين لا يعجب من العجب ويعجب من غير العجب، أو أنه عد استهزاءهم بغيره بالنسبة إلى الاستهزاء به عدماً. أ هـ ﴿نظم الدرر حـ ٢ صـ ٤٨٩﴾

فصل


قال الفخر :
اعلم أنه تعالى رتب أحوال هؤلاء الكفار على ثلاث مراتب، فالمرتبة الأولى : كونهم معرضين عن التأمل في الدلائل والتفكر في البينات، والمرتبة الثانية : كونهم مكذبين بها وهذه المرتبة أزيد مما قبلها، لأن المعرض عن الشيء قد لا يكون مكذباً به، بل يكون غافلاً عنه غير متعرض له، فإذا صار مكذباً به فقد زاد على الأعراض، والمرتبة الثالثة : كونهم مستهزئين بها لأن المكذب بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه به إلى حد الاستهزاء، فإذا بلغ إلى هذا الحد فقد بلغ الغاية القصوى في الإنكار، فبين تعالى أن أولئك الكفار وصلوا إلى هذه المراتب الثلاثة على هذا الترتيب.
واختلفوا في المراد بالحق فقيل إنه المعجزات : قال ابن مسعود : انشق القمر بمكة وانفلق فلقتين فذهبت فلقة وبقيت فلقة، وقيل إنه القرآن، وقيل : إنه محمد ﷺ وقيل إنه الشرع الذي أتى به محمد ﷺ والأحكام التي جاء بها محمد ﷺ وقيل إنه الوعد والوعيد، الذي يرغبهم به تارة ويحذرهم بسببه أخرى، والأولى دخول الكل فيه.


الصفحة التالية