قوله تعالى ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (٨) ﴾
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما بين ما يترتب على الإجابة إلى ما أشار إلى أن اليهود اقترحوه من إنزال الكتاب، أخبر أنهم اقترحوا ظهور الملك لهم، وبين لوازمه، فإنهم قالوا : لو بعث الله رسولاً لوجب كونه ملكاً ليكون أكثر علماً وأقوى قدرة وأظهر امتيازاً عن البشر، فتكون الشبهة في رسالته أقل، والحكيم إذا أراد تحصيل مهم كان الأولى تحصيله بما هو أسرع إيصالاً إليه، فقال :﴿وقالوا لولا﴾ أي هلا ولِمَ لا ﴿أنزل عليه ملك﴾ أي من المساء ظاهراً لنا يكلمنا ونكلمه ولا يحتجب عنا.
ولما ذكر قولهم مشيراً إلى شبهتهم، نقضه بقوله :﴿ولو﴾ أي والحال أنا لو ﴿أنزلنا﴾ وأسقط أداة الاستعلاء لعدم الاحتياج في رد كلامهم إلى ذكرها.
ولئلا يكون فيه تسليهم لما لوحوا إليه من إنكارهم نزول الملك عليه بالوحي ﴿ملكاً﴾ أي كما اقترحوه، فلا يخلو إما أن يكون على صورته أولاً، فإن كان على صورته التي خلق عليها لم يثبتوا لرؤيته، ولو كان كذلك ﴿لقضي الأمر﴾ أي بهلاكهم، وبناه للمفعول إشارة على طريق كلام القادرين إلى غاية السرعة لسهولة الأمر وخفة مؤنته، فإنه لا ينظره أحد منهم إلاّ صعق، ولئن أعطيناهم قوة يثبتون بها لنظره ليكونن قضاءٌ للأمر وانفصال للنزاع من وجه آخر، وهو أن ذلك كشف للغطاء وفوات للإيمان بالغيب، وقد جرت عادتنا بالإهلاك عند ذلك، فإذا هم هالكون على كل من هذين التقديرين، وهو معنى قوله مهولاً لرتبته بحرف التراخي :﴿ثم لا ينظرون﴾ أي على حالة من هاتين، وأما إن جعلناه على صورة يستطيعون نظرها فإنا نجعله على صورة رجل، فإنها أكمل الصور ؛ وحينئذٍ يقع لهم اللبس الذي وقع لهم بدعائك، وهو معنى ﴿ولو جعلناه﴾ أي مطلوبَهم ﴿ملكاً﴾. أ هـ ﴿نظم الدرر حـ ٢ صـ ٥٩١ ـ ٥٩٢﴾
فصل
قال الفخر :
اعلم أن هذا النوع الثالث من شبه منكري النبوّات فإنهم يقولون : لو بعث الله إلى الخلق رسولاً لوجب أن يكون ذلك الرسول واحداً من الملائكة فإنهم إذا كانوا من زمرة الملائكة كانت علومهم أكثر، وقدرتهم أشد، ومهابتهم أعظم، وامتيازهم عن الخلق أكمل، والشبهات والشكوك في نبوّتهم ورسالتهم أقل.
والحكيم إذا أراد تحصيل مهم فكل شيء كان أشد إفضاءً إلى تحصيل ذلك المطلوب كان أولى.
فلما كان وقوع الشبهات في نبوّة الملائكة أقل، وجب لو بعث الله رسولاً إلى الخلق أن يكون ذلك الرسول من الملائكة هذا هو المراد من قوله تعالى :﴿وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ﴾.
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجهين : أما الأول : فقوله ﴿وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الأمر﴾ ومعنى القضاء الإتمام والإلزام.
وقد ذكرنا معاني القضاء في سورة البقرة.