قوله تعالى ﴿ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) ﴾
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما قرن الأخذ بالبغت تارة صريحاً وتارة بإسقاط الكاف ؛ كان ربما وقع في وهم السؤالُ عن حالة الجهر، أتبع ذلك ذكره مفصلاً لما أجمل من الأحوال في الآيتين قبل فقال :﴿قل أرءيتكم﴾ ولما كان المعنى : أخبروني، وكان كأنه قيل : عما ذا؟ قيل :﴿إن أتاكم عذاب الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال فلا يعجزه شيء ﴿بغتة﴾ أي بحيث لا يرى إلا ملتبساً بكم من غير أن يشعر به ويظهر شيء من أماراته، ﴿أو جهرة﴾ أي بحيث ترونه مقبلاً إليكم مقدماً عليكم ﴿هل ﴾.
ولما كان المخوف بالذات هو الهلاك من غير نظر إلى تعيين الفاعل، بني للمفعول قوله :﴿يهلك﴾ أي في واحدة من الحالتين هلاكاً هو الهلاك، وهو هلاك السخط ﴿إلا القوم﴾ أي الذين لهم قوة المدافعة وشدة المقاتلة في زعمكم والمقاومة ﴿الظالمون﴾ أي بوضع الأشياء في غير مواضعها من إعطاء الشيء لمن لا يستحقه ومنع المستحق ما له، وأما المصلح فإنه ناج إما في الدارين وإما في الآخرة التي من فاز فيها فلا توى عليه ؛ وذكر أبو حيان أنه لما كان مطلق العذاب صالحاً لكل ما يعلم من تفاصيل أهواله وما لا يعلم، كان التوعد به أهول، فلذلك أكد فيه في الآيتين الخطاب بالضمير بحرف الخطاب، والتوعد بأخذ السمع وما معه من جملة الأنواع التي اشتمل عليها ذلك المطلق فأعري من حرف الخطاب. أ هـ ﴿نظم الدرر حـ ٢ صـ ٦٣٩﴾

فصل


قال الفخر :
اعلم أن الدليل المتقدم كان مختصاً بأخذ السمع والبصر والقلب وهذا عام في جميع أنواع العذاب، والمعنى : أنه لا دافع لنوع من أنواع العذاب إلا الله سبحانه، ولا محصل لخير من الخيرات إلا الله سبحانه، فوجب أن يكون هو المعبود بجميع أنواع العبادات لا غيره.
فإن قيل : ما المراد بقوله ﴿بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً﴾ قلنا العذاب الذي يجيئهم إما أن يجيئهم من غير سبق علامة تدلهم على مجيء ذلك العذاب أو مع سبق هذه العلامة.
فالأول : هو البغتة.
والثاني : هو الجهرة.
والأول سماه الله تعالى بالبغتة، لأنه فاجأهم بها وسمى الثاني جهرة، لأن نفس العذاب وقع بهم وقد عرفوه حتى لو أمكنهم الاحتراز عنه لتحرزوا منه.
وعن الحسن أنه قال :﴿بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً﴾ معناه ليلاً أو نهاراً.
وقال القاضي : يجب حمل هذا الكلام على ما تقدم ذكره لأنه لو جاءهم ذلك العذاب ليلاً وقد عاينوا مقدمته، لم يكن بغتة ولو جاءهم نهاراً وهم لا يشعرون بمقدمته لم يكن جهرة.
فأما إذا حملناه على الوجه الذي تقدم ذكره، استقام الكلام.
فإن قيل : فما المراد بقوله ﴿هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون﴾ مع علمكم بأن العذاب إذا نزل لم يحصل فيه التمييز.
قلنا : إن الهلاك وإن عم الأبرار والأشرار في الظاهر، إلا أن الهلاك في الحقيقة مختص بالظالمين الشريرين، لأن الأخيار يستوجبون بسبب نزول تلك المضار بهم أنواعاً عظيمة من الثواب والدرجات الرفيعة عند الله تعالى، فذاك وإن كان بلاء في الظاهر، إلا أنه يوجب سعادات عظيمة ؟
أما الظالمون فإذا نزل البلاء بهم فقد خسروا الدنيا والآخرة معاً، فلذلك وصفهم الله تعالى بكونهم هالكين وذلك تنبيه على أن المؤمن التقي النقي هو السعيد، سواء كان في البلاء أو في الآلاء والنعماء وأن الفاسق الكافر هو الشقي، كيف دارت قضيته واختلفت أحواله، والله أعلم. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٢ صـ ١٨٨ ـ ١٨٩﴾


الصفحة التالية
Icon