قوله تعالى ﴿ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) ﴾
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان مما يقبل في نفسه في الجملة أن يذكر اسم الله عليه ما يحرم لكونه ملكاً للغير أو فيه شبهة، نهى عنه على وجه يعم غيره، فقال عطفاً على " فكلوا " ﴿وذروا﴾ أي اتركوا على أيّ حالة اتفقت وإن كنتم تظنونها غير صالحة ﴿ظاهر الإثم﴾ أي المعلوم الحرمة من هذا وغيره ﴿وباطنه﴾ من كل ما فيه شبهة من الأقوال والأفعال والعقائد، فإن الله جعل له في القلب علامة، وهو أن يضطرب عنده ولا يسكن كما قال ﷺ :" والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر " - أخرجه مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه ؛ ثم علل ذلك بقوله :﴿إن الذين يكسبون الإثم﴾ أي ولو بأخفى أنواع الكسب، بما دل عليه تجريد الفعل، وهو الاعتقاد للاسم الشريف.
ولما كان العاقل من خاف من مطلق الجزاء بني للمفعول قوله ﴿سيجزون﴾ أي بوعد لا خلف فيه ﴿بما﴾ أي بسبب ما ﴿كانوا﴾ بفاسد جبلاتهم ﴿يقترفون﴾ أي يكتسبون اكتساباً يوجب الفرق وهو أشد الخوف ويزيل الرفق، وصيغة الافتعال للدلالة على أن أفعال الشر إنما تكون بمعالجة من النفس للفطرة الأولى السليمة. أ هـ ﴿نظم الدرر حـ ٢ صـ ٧٠٣﴾

فصل


قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما بين أنه فصل المحرمات أتبعه بما يوجب تركها بالكلية بقوله :﴿وَذَرُواْ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ﴾ والمراد من الإثم ما يوجب الإثم، وذكروا في ظاهر الإثم وباطنه وجهين : الأول : أن ﴿ظاهر الإثم﴾ الإعلان بالزنا ﴿وَبَاطِنَهُ﴾ الاستسرار به.
قال الضحاك : كان أهل الجاهلية يرون الزنا حلالاً ما كان سراً، فحرم الله تعالى بهذه الآية السر منه والعلانية.
الثاني : أن هذا النهي عام في جميع المحرمات وهو الأصح، لأن تخصيص اللفظ العام بصورة معينة من غير دليل غير جائز، ثم قيل : المراد ما أعلنتم وما أسررتم، وقيل : ما عملتم وما نويتم.
وقال ابن الأنباري : يريد وذروا الإثم من جميع جهاته كما تقول : ما أخذت من هذا المال قليلاً ولا كثيراً، تريد ما أخذت منه بوجه من الوجوه، وقال آخرون : معنى الآية النهي عن الإثم مع بيان أنه لا يخرج من كونه إثماً بسبب إخفائه وكتمانه، ويمكن أن يقال : المراد من قوله :﴿وَذَرُواْ ظاهر الإثم﴾ النهي عن الإقدام على الإثم، ثم قال :﴿وَبَاطِنَهُ﴾ ليظهر بذلك أن الداعي له إلى ترك ذلك الإثم خوف الله لا خوف الناس.
وقال آخرون :﴿ظاهر الإثم﴾ أفعال الجوارح ﴿وَبَاطِنَهُ﴾ أفعال القلوب من الكبر والحسد والعجب وإرادة السوء للمسلمين، ويدخل فيه الاعتقاد والعزم والنظر والظن والتمني واللوم على الخيرات، وبهذا يظهر فساد قول من يقول : إن ما يوجد في القلب لا يؤاخذ به إذا لم يقترن به عمل فإنه تعالى نهى عن كل هذه الأقسام بهذه الآية.
ثم قال تعالى :﴿إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ﴾ ومعنى الاقتراف قد تقدم ذكره.
وظاهر النص يدل على أنه لا بد وأن يعاقب المذنب، إلا أن المسلمين أجمعوا على أنه إذا تاب لم يعاقب، وأصحابنا زادوا شرطاً ثانياً، وهو أنه تعالى قد يعفو عن المذنب فيترك عقابه كما قال الله تعالى :﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾ [ النساء : ٤٨ ]. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٣ صـ ١٣٧﴾


الصفحة التالية
Icon