قوله تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١)﴾
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولذلك قال مستأنفاً جواباً لمن يقول : فما فعل بهم؟ مؤكداً لإنكار الكفار ذلك :﴿إن الذين فتنوا﴾ أي خالطوا من الأذى بما لا تحتمله القوى فلا بد أن يميل أو يحيل في أي زمان كان ومن أي قوم كانوا ﴿المؤمنين والمؤمنات﴾ أي ذوي الرسوخ في وصف الإيمان.
ولما كانت التوبة مقبولة قبل الغرغرة ولو طال الزمان، عبر بأداة التراخي فقال :﴿ثم لم يتوبوا﴾ أي عن ذنوبهم وكفرهم.
ولما كان سبحانه لا يعذب أحداً إلا بسبب، سبب عن ذنبهم وعدم توبتهم قوله :﴿فلهم﴾ أي خاصة لأجل كفرهم ﴿عذاب جهنم﴾ أي الطبقة التي تلقى داخلها بغاية الكراهة والتجهم، هذا في الآخرة ﴿ولهم﴾ أي مع ذلك في الدارين لأجل فتنتهم لأولياء الله ﴿عذاب الحريق﴾ أي العذاب الذي من شأنه المبالغة في الإحراق بما أحرقوا من قلوب الأولياء، وقد صدق سبحانه قوله هذا فيمن كذب النبي ـ ﷺ ـ بإهلاكهم شر إهلاك مغلوبين مقهورين مع أنهم كانوا قاطعين بأنهم غالبون كما فعل بمن كان قبلهم، فدل ذلك على أنه على كل شيء قدير، فدل على أنه يبدىء ويعيد.
ولما ذكر عقاب المعاندين بادئاً به لأن المقام له، أتبعه ثواب العابدين، فقال مؤكداً لما لأعدائهم من إنكار ذلك :﴿إن الذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان ولو على أدنى الوجوه من المقذوفين في النار وغيرهم من كل طائفة في كل زمان ﴿وعملوا الصالحات﴾ تصديقاً لإيمانهم وتحقيقاً له.
ولما كان الله سبحانه من رحمته قد تغمد أولياءه بعنايته ولم يكلهم إلى أعمالهم لم يجعلها سبب سعادتهم فلم يقرن بالفاء قوله :﴿لهم﴾ أي جزاء مقاساتهم لنيران الدنيا من نار الأخدود الحسية التي ذكرت، ومن نيران الغموم والأحزان المعنوية التي يكون المباشر لأسبابها غيره سبحانه فيكون المقاسي لها مع حفظه للدين كالقابض على الجمر ﴿جنّات﴾ أي فضلاً منه ﴿تجري﴾ وقرب منالها بالجار فقال :﴿من تحتها﴾ أي تحت غرفها وأسرتها وجميع أماكنها ﴿الأنهار﴾ يتلذذون ببردها في نظير ذلك الحر الذي صبروا عليه في الدنيا ويروقهم النظر إليها مع خضرة الجنان والوجوه الحسان الجالبة للسرور الجالية للأحزان.