البحر المحيط، ج ١، ص : ٥٧٣
ثانيا لمنع، أو مفعولا من أجله، فيتعين حذف مضاف، أي دخول مساجد اللّه، أو ما أشبه ذلك، أو بدلا من مساجد بدل اشتمال، أي ذكر اسم اللّه فيها، أو مفعولا على إسقاط حرف الجر، أي من أن يذكر. فلما حذفت من انتصب على رأي، أو بقي مجرورا على رأي.
وكنى بذكر اسم اللّه عما يوقع في المساجد من الصلوات والتقرّبات إلى اللّه تعالى بالأفعال القلبية والقالبية، من تلاوة كتبه، وحركات الجسم من القيام والركوع والسجود والقعود الذي تعبد به، أو إنما ذكر تعلق المنع بذكر اسم اللّه تنبيها على أنهم منعوا من أيسر الأشياء، وهو التلفظ باسم اللّه. فمنعهم لما سواه أولى. وحذف الفاعل هنا اختصارا، لأنهم عالم لا يحصون. وجاء تقديم المجرور على المفعول الذي لم يسم فاعله، لأن المحدث عنه قبل هي مساجد اللّه، وهي في اللفظ مذكورة قبل اسم اللّه، فناسب تقديم المجرور لذلك.
وأضيفت المساجد للّه على سبيل التشريف، كما قال تعالى : وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ «١»، وخصّ بلفظ المسجد، وإن كان الذي يوقع فيه أفعالا كثيرة من القيام والركوع والقعود والعكوف. وكل هذا متعبد به، ولم يقل مقام ولا مركع ولا مقعد ولا معكف، لأن السجود أعظم الهيئات الدالة على الخضوع والخشوع والطواعية التامة. ألا ترى إلى
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم :«أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»؟
وهي حالة يلقي فيها الإنسان نفسه للانقياد التام، ويباشر بأفضل ما فيه وأعلاه، وهو الوجه، التراب الذي هو موطىء قدميه.
قال ابن عطية : وهذه الآية تتناول كل من منع من مسجد إلى يوم القيامة، أو خرّب مدينة إسلام، لأنها مساجد، وإن لم تكن موقوفة، إذ الأرض كلها مسجد. وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف قيل مساجد اللّه؟ وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد وهو بيت المقدس، أو المسجد الحرام؟ قلت : لا بأس أن يجيء الحكم عامّا، وإن كان السبب خاصا، كما تقول لمن آذى صالحا واحدا، ومن أظلم ممن آذى الصالحين؟
وكما قال اللّه عز وجل : وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ «٢»، والمنزول فيه الأخنس بن شريق.
انتهى كلامه. وقال غيره : جمعت لأنها قبلة المساجد كلها، يعني الكعبة للمسلمين، وبيت المقدس لغيره. وَسَعى فِي خَرابِها : إما حقيقة، كتخريب بيت المقدس، أو مجازا بانقطاع الذكر فيها ومنع قاصديها منها، إذ ذلك يؤول بها إلى الخراب. فجعل المنع
(١) سورة الجن : ٧٢/ ١٨.
(٢) سورة الهمزة : ١٠٤/ ١.