يقول الله تعالى مادحاً نفسه الكريمة، حامداً لها على خلقه السماوات والأرض قراراً لعباده، وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في ليلهم ونهارهم، فجمع لفظ الظلمات، ووحد لفظ النور لكونه أشرف، كقوله تعالى :﴿ عَنِ اليمين والشمآئل ﴾ [ النحل : ٤٨ ]، وكما قال في آخر السورة :﴿ وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ﴾ [ الأنعام : ١٥٣ ]. ثم قال تعالى :﴿ ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ أي ومع هذا كله كفر به بعض عباده، وجعلوا له شريكاً وعدلاً، واتخذوا له صاحبة وولداً. تعالى الله عزَّ وجلَّ عن ذلك علواً كبيراً، وقوله تعالى :﴿ هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ﴾ يعني أباهم آدم الذي هو أصلهم. ومنه خرجوا فانتشروا في المشارق والمغارب، وقوله :﴿ ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ﴾ قال ابن عباس :﴿ ثُمَّ قضى أَجَلاً ﴾ يعني الموت، ﴿ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ﴾ يعني الآخرة. وقال الحسن في رواية عنه :﴿ ثُمَّ قضى أَجَلاً ﴾ وهو ما بين أن يخلق إلى أن يموت ﴿ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ﴾ وهو ما بين أن يموت إلى أن يبعث وهو يرجع إلى ما تقدم، وهو تقدير الأجل الخاص، وهو عمر كل إنسان، وتقدير الأجل العام وهو عمر الدنيا بكمالها ثم انتهائها وانقضائها وزوالها وانتقالها والمصير إلى الدار الآخرة، وعن ابن عباس ومجاهد :﴿ ثُمَّ قضى أَجَلاً ﴾ يعني مدة الدنيا ﴿ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ﴾ يعني عمر الإنسان إلى حين موته، وكأنه مأخوذ من قوله تعالى بعد هذا ﴿ وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم باليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار ﴾ [ الأنعام : ٦٠ ] الآية. ومعنى قوله :﴿ عِندَهُ ﴾ أي لا يعلمه إلاّ هو، كقوله :﴿ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ﴾ [ الأعراف : ١٨٧ ] وكقوله :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إلى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ ﴾ [ النازعات : ٤٢-٤٤ ] وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ﴾، قال السدي وغيره : يعني تشكون في أمر الساعة.
وقوله تعالى :﴿ وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ اختلف مفسرو هذه الآية على اقوال بعد اتفاقهم على إنكار قول الجهمية القائلين - تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً - بأنه في كل مكان حيث حملوا الآية على ذلك، فالأصح من الأقوال : أنه المدعو الله في السماوات وفي الأرض : أي يعبده ويوحده ويقر له بالإلهية من في السماوات ومن في الأرض، ويسمونه الله، ويدعونه رغباً ورهباً إلا من كفر من الجن والإنس، وهذه الآية على هذا القول كقوله تعالى :﴿ وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله ﴾ [ الزخرف : ٨٤ ] أي هو إله من في السماء وإله من في الأرض، وعلى هذا فيكون قوله :﴿ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ﴾ خبراً أو حالاً ( والقول الثاني ) : أن المراد أنه الله الذي يعلم ما في السماوات وما في الأرض من سر وجهر، فيكون قوله « يعلم » متعلقاً بقوله :﴿ فِي السماوات وَفِي الأرض ﴾ تقديره : وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض ويعلم ما تكسبون، ( والقول الثالث ) : أن قوله ﴿ وَهُوَ الله فِي السماوات ﴾ وقف تام، ثم استأنف الخبر فقال :﴿ وَفِي الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ﴾، وهذا اختيار ابن جرير، وقوله :﴿ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ أي جميع أعمالكم خيرها وشرها.