وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ اِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ٤
اعلم! ان القرآن أرسل النظم - أي لم يعيّن بوضع امارةٍ وجهاً من وجوه التراكيب في كثير من أمثال هذه الآية، لسرٍ لطيف، هو منشأ الايجاز الذي هو منشأ الاعجاز، وهو:
ان البلاغة هي مطابقة مقتضى الحال. والحال: ان المخاطبين بالقرآن على طبقات متفاوتة، وفي اعصار مختلفة. فلمراعاة هذه الطبقات، ولمجاورة هذه الاعصار، ليستفيد مخاطب كل نوعٍ ماقُدِّرَ له من حصته، حذف القرآنُ في كثيرٍ للتعميم والتوزيع، واطلق في كثيرٍ للتشميل والتقسيم، وارسل النظم في كثير لتكثير الوجوه، وتضمين الاحتمالات المستحسنة في نظر البلاغة والمقبولة عند العلم العربي ليفيض على كلِ ذهنٍ بمقدار ذوقه. فتأمل!..
ثم ان وجه نظم هذه الآية بسابقتها: التخصيص بعد التعميم. ليعلن على رؤوس الاشهاد شرفَ مَنْ آمن من اهل الكتاب، وليردّ يد استغناء اهله في أفواههم، وليأخذ يد امثال "عبد الله بن سلام" ١، ويشوِّق غيره لان يأتم به.. وأيضا التنصيص على قسْمَي المتقين ٢ للتصريح بشمول هداية القرآن لكافة الامم، والتلويح لعموم رسالة محمد عليه السلام لقاطبة الملل.. وايضا التفصيل بعد الاجمال لشرح اركان الايمان المندمجة في صَدَف يؤمنون بالغيب اذ دل على الكتب والقيامة صراحة، وعلى الرسل والملائكة ضمنا.
ثم ان القرآن لم يوجز هنا بنحو (والمؤمنين بالقرآن) لترصيع هذا المعنى بلطائف وتزيين ذيوله بنكت، فآثر (والذين يؤمنون بما أُنزل اليك).
٢ المذكورين في هذه الآية والتى سبقتها (ت: ٥٠)