ذكر غير واحد من المفسرين أن رسول الله ﷺ كان يوماً يخاطب بعض عظماء قريش، وقد طمع في إسلامه، فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابن أم مكتوم، وكان ممن أسلم قديماً، فجعل يسأل رسول الله ﷺ عن شيء ويلح عليه، وود النبي ﷺ أن لو كف ساعته تلك، ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل طمعاً ورغبة في هدايته وعبس في وجه ابن أم مكتوم وأعرض عنه، وأقبل على الآخر، فأنزل الله تعالى، ﴿ عَبَسَ وتولى * أَن جَآءَهُ الأعمى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى ﴾ أي يحصل زكاة وطهارة في نفسه، ﴿ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى ﴾ أي يحصل له اتعاض وازدجار عن المحارم. ﴿ أَمَّا مَنِ استغنى * فَأَنتَ لَهُ تصدى ﴾ أي أما الغني فأنت تَعرَّض له لعله يهتدي ﴿ وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يزكى ﴾ أي ما أنت بمطالب به إذا لم يزك نفسه. ﴿ وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يسعى * وَهُوَ يخشى ﴾ أي يقصدك ويؤمك أن لا ليهتدي بما تقول له، ﴿ فَأَنتَ عَنْهُ تلهى ﴾ أي تتشاغل. ومن ههنا أمر الله تعالى رسول الله ﷺ أن لا يخص بالإنذار أحداً، بل يساوي فيه بين الشريف والضعيف، والفقير والغني، والسادة والعبيد، والرجال والنساء، والصغار والكبار، ثم الله تعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة، روى الحافظ أبو يعلى عن أنَس رضي الله عنه في قوله :﴿ عَبَسَ وتولى ﴾ قال : جاء ابن أم مكتوم إلى النبي ﷺ، وهو يكلم ( أبيّ بن خلف ) فأعرض عنه، فأنزل الله عزّ وجلّ :﴿ عَبَسَ وتولى * أَن جَآءَهُ الأعمى ﴾ فكان النبي ﷺ بعد ذلك يكرمه، وعن عائشة قالت :« أنزلت ﴿ عَبَسَ وتولى ﴾ في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى إلى رسول الله ﷺ، فجعل يقول أرشدني. قالت : وعند رسول الله ﷺ رجل من عظماء المشركين قالت : فجعل النبي ﷺ يعرض عنه، ويقبل على الآخر، ويقول :» أترى بما أقول بأساً؟ فيقول : لا، ففي هذا أنزلت :﴿ عَبَسَ وتولى ﴾ «، وهكذا ذكر غير واحد من السلف والخلف : أنها نزلت في ابن أم مكتوم، والمشهور أن اسمه عبد الله، وقوله تعالى :﴿ كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ﴾ أي هذه الوصية بالمساواة بين الناس، في إبلاغ العلم بين شريفهم ووضيعهم، وقال قتادة :﴿ كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ﴾ يعني القرآن ﴿ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ ﴾ أي فمن شاء ذكر الله تعالى في جميع أموره، ويحتمل عود الضمير إلى الوحي لدلالة الكلام عليه، وقوله تعالى :﴿ فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ ﴾ أي هذه السورة أو العظة ﴿ فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ ﴾ أي معظلة موقرة، ﴿ مَّرْفُوعَةٍ ﴾ أي عالية القدرة، ﴿ مُّطَهَّرَةٍ ﴾ أي من الدنس والزيادة والنقص، وقوله تعالى :﴿ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ﴾ قال ابن عباس ومجاهد : هي الملائكة، وقال وهب بن منبه : هم أصحاب محمد ﷺ، وقال قتادة : هم القراء، وقال ابن جرير : والصحيح أن السفرة الملائكة، والسفرة يعني بين الله تعالى وبين خلقه، ومنه السفير الذي يسعى بين الناس في الصلح والخير، كما قال الشاعر :