روى الإمام أحمد، عن جندب بن عبد الله قال :« اشتكى النبي ﷺ فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتت امرأة فقالت : يا محمد ما آرى شيطانك إلاّ قد تركك، فأنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ والضحى * والليل إِذَا سجى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى ﴾ » وفي رواية : أبطأ جبريل على رسول الله ﷺ، فقال المشركون : ودع محمداً ربه، فأنزل الله تعالى :﴿ والضحى * والليل إِذَا سجى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى ﴾، وهذا قسم منه تعالى بالضحى وما جعل فيه من الضياء ﴿ والليل إِذَا سجى ﴾ أي سكن فأظلم وادلهم، وذلك دليل ظاهر على قدرته تعالى، كما قال تعالى :﴿ والليل إِذَا يغشى * والنهار إِذَا تجلى ﴾ [ الليل : ١-٢ ]، وقال تعالى :﴿ فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً والشمس والقمر حُسْبَاناً ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم ﴾ [ الأنعام : ٩٦ ]، وقوله تعالى :﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ ﴾ أي ما تركك ﴿ وَمَا قلى ﴾ أي وما أبغظك، ﴿ وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى ﴾ أي وللدار الآخرة خير لك من هذه الدار، ولهذا كان رسول الله ﷺ أزهد الناس في الدنيا وأعظمهم لها إطراحاً، كما هو معلوم بالضرورة من سيرته، ولما خيَّر عليه السلام في آخر عمره، بين الخلد في الدنيا إلى آخرها ثم الجنة، وبين الصيرورة إلى الله عزَّ وجلَّ، اختار ما عند الله على هذه الدنيا الدنية، ورى الإمام أحمد، عن عبد الله بن مسعود قال :« اضطجع رسول الله ﷺ على حصير فأثر في جنبه، فلما استيقظ جعلت أمسح جنبه، وقلت : يا رسول الله ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئاً، فقال رسول الله ﷺ :» ما لي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظلّ تحت شجرة ثم راح وتركها « » وقوله تعالى :﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى ﴾ أي في الدار الآخرة يعطيه حتى يرضيه في أُمته، وفيما أعده له من الكرامة، ومن جملته نهر الكوثر الذي حفتاه قباب اللؤلؤ المجوف وطينه مسك أذفر كما سيأتي. وروي عن ابن عباس أنه قال :« عرض على رسول الله ﷺ ما هو مفتوح على أُمته من بعده كنزاً كنزاً فسرّ بذلك، فأنزل الله ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى ﴾ فأعطاه في الجنة ألف ألف قصر في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم »، وقال السدي عن ابن عباس : من رضاء محمد ﷺ أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار، قال الحسن : يعني بذلك الشفاعة، ثم قال تعالى يعدّد نعمه على عبده ورسوله محمد صلوات الله سلامه عليه :﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى ﴾ وذلك أن أباه توفي وهو حمل في بطن أمه، ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب وله من العمر ست سنين، ثم كان في كفالة جده عبد المطلب إلى أن توفي وله من العمر ثمان سنين، فكفله عمه أبو طالب، ثم لم يزل يحوطه وينصره ويرفع من قدره ويوقره ويكف عنه أذى قومه بعد أن ابتعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره، هذا وأبو طالب على دين قومه من عبادة الأوثان، وكل ذلك بقدر الله وحسن تدبيره، إلى أن توفي أبو طالب قبل الهجرة بقليل، فأقدم عليه سفهاء قريش وجهالهم، فاختار الله له الهجرة من بين أظهرهم إلى بلد الأنصار من الأوس والخزرج، كما أجرى الله سنته على الوجه الأتم الأكمل، فلما وصل إليهم آووه ونصروه وحاطوه وقاتلوا بين يديه رضي الله عنهم أجمعين، وكل هذا من حفظ الله له وكلاءته وعنايته به.