من النكتة أنه أبدله منه، وجعله بحيث يقوم مقامه ويسدّ مسدّه، ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا. وقوله :﴿ ظَاهِراً مّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ﴾ يفيد أن للدنيا ظاهراً وباطناً، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها. وباطنها وحقيقتها أنها مجاز إلى الآخرة : يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة. وفي تنكير الظاهر : أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً من جملة الظواهر. و ( هم ) الثانية يجوز أن يكون مبتدأ. و ﴿ غَافِلُونَ ﴾ خبره، والجملة خبر ( هم ) الأولى، وأن يكون تكريراً للأولى، وغافلون خبر الأولى. وأية كانت فذكرها مناد على أنهم معدن الغفلة عن الآخرة ومقرّها ومعلمها، وأنها منهم تنبع وإليهم ترجع.
! ٧ < ﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ﴾ > ٧ !
< < الروم :( ٨ ) أو لم يتفكروا..... > > ﴿فِى أَنفُسِهِمْ ﴾ يحتمل أن يكون ظرفاً، كأنه قيل : أولم يحدثوا التفكر في أنفسهم، أي : في قلوبهم الفارغة من الفكر، والتفكر لا يكون إلا في القلوب، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين، كقولك : اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك، وأن يكون صلة للتفكر، كقولك : تفكر في الأمر وأجال فيه فكره. و ﴿ مَا خَلَقَ ﴾ متعلق بالقول المحذوف، معناه : أولم يتفكروا فيقولوا هذا القول. وقيل : معناه : فيعلموا، لأنّ في الكلام دليلاً عليه ﴿ إِلاَّ بِالْحَقّ وَأَجَلٍ مُّسَمًى ﴾ أي ما خلقها باطلاً وعبثاً بغير غرض صحيح وحكمة بالغة، ولا لتبقى خالدة : إنما خلقها مقرونة بالحق مصحوبة بالحكمة، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها من أن تنتهي إليه، وهو قيام الساعة ووقت الحساب والثواب والعقاب. ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ﴾ ( المؤمنون : ١١٥ ) كيف سمي تركهم غير راجعين إليه عبثاً. والباء في قوله :﴿ إِلاَّ بِالْحَقّ ﴾ مثلها في قولك : دخلت عليه بثياب السفر، واشترى الفرس بسرجه ولجامه، تريد : اشتراه وهو ملتبس بالسرج واللجام، غير منفك عنهما. وكذلك المعنى ما خلقها إلا وهي ملتبسة بالحق مقترنة به، فإن قلت : إذا جعلت ﴿ فِى أَنفُسِهِمْ ﴾ صلمة للتفكر، فما معناه ؟ قلت : معناه : أولم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات، وهم أعلم وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها، فتدبروا ما أودعها الله ظاهراً وباطناً من غرائب الحكم الدالة على التدبير دون الإهمال وأنه لا بد لها من انتهاء إلى وقت يجازيها فيه الحكم الذي دبر أمرها على الإحسان إحساناً وعلى الإساءة مثلها، حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جار على الحكمة والتدبير وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى