الإجابة
الحمد لله
روى البخاري (1978) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ: " (اقْرَإِ القُرْآنَ
فِي كُلِّ شَهْرٍ) ، قَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ فَمَا زَالَ ، حَتَّى قَالَ:
(فِي ثَلاَثٍ)" .
ورواه الإمام أحمد (6546) مطولا ، ولفظه : عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ:
" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ فِي كَمْ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: ( اقْرَأْهُ فِي
كُلِّ شَهْرٍ ) ، قَالَ: قُلْتُ: " إِنِّي أَقْوَى عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ
قَالَ: ( اقْرَأْهُ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ )، قُلْتُ: إِنِّي أَقْوَى عَلَى
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: ( اقْرَأْهُ فِي عِشْرِينَ )، قَالَ: قُلْتُ: إِنِّي
أَقْوَى عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: ( اقْرَأْهُ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ )،
قَالَ: قُلْتُ: إِنِّي أَقْوَى عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: ( اقْرَأْهُ فِي
عشر)، قَالَ: قُلْتُ: إِنِّي أَقْوَى عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ: (
اقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ )، قَالَ: قُلْتُ: إِنِّي أَقْوَى عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ
، قَالَ: ( لَا يَفْقَهُهُ مَنْ يَقْرَؤُهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ ) " .
وقال محققو المسند : " إسناده صحيح على شرط الشيخين " .
وعلى ذلك ؛ ففي الأمر سعة
وفسحة ، فمن تمكن من تلاوة القرآن في شهر أو أقل من ذلك فقد أحسن .
وينبغي أن يختار المسلم من ذلك ما يغلب على ظنه أنه قادر على المداومة عليه ، وأنه
لا يشق عليه في مآل أمره ، ولا ينقطع عنه ، ولا يشغله عما هو أهم وأولى من العبادات
؛ فيأخذ من أوراد الأعمال : بقدر ما يطيق ، فإذا وجد في نفسه خفة ونشاطا يوما ، زاد
فيها ما شاء الله له ، من غير نية الالتزام والمحافظة على أمر ، يغلب على ظنه ألا
يوفي به ، أو يحصل له السآمة والملال منه .
وعلى ذلك حمل الشاطبي ما ورد عن السلف من المبالغة في الطاعات ، والجد فيها .
قال رحمه الله : " مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَدلة النَّهْيِ صحيح صريح ، وما نُقل عن
الأوَّلين من الإيغال يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوجه:
أَحدها: أَن يُحْمَلَ عَلَى أَنهم إِنما عَمِلُوا عَلَى التَّوَسُّطِ ، الَّذِي
هُوَ مظنة الدوام ، فلم يلزموا أَنفسهم ما لَعَلَّه يُدْخِل عَلَيْهِمُ
الْمَشَقَّةَ ، حَتَّى يَتْرُكُوا بِسَبَبِهِ مَا هُوَ أَولى ، أَو يَتْرُكُوا
الْعَمَلَ ، أَو يُبَغِّضُوهُ لِثِقَلِهِ عَلَى أَنفسهم ، بَلِ الْتَزَمُوا مَا
كَانَ عَلَى النُّفُوسِ سَهْلًا فِي حَقِّهِمْ ، فإِنما طَلَبُوا الْيُسْرَ لَا
الْعُسْرَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ حَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، وَحَالَ مَنْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنْهُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ
بِنَاءً عَلَى أَنهم إِنما عَمِلُوا بمَحْض السنَّة ، وَالطَّرِيقَةِ الْعَامَّةِ
لِجَمِيعِ المُكَلَّفين ...
وَالثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَن يَكُونُوا عَمِلُوا عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِيمَا
اسْتَطَاعُوا، لَكِنْ على غير جِهَةِ الِالْتِزَامِ، لَا بِنَذْرٍ وَلَا غَيْرِهِ،
وَقَدْ يَدْخُلُ الْإِنْسَانُ فِي أَعمال يَشُقُّ الدَّوَامُ عَلَيْهَا ، وَلَا
يَشُقُّ فِي الْحَالِ ، فيَغْتَنِم نَشَاطَهُ فِي حَالِهِ خَاصَّةٍ ، غَيْرَ
نَاظِرٍ فِيهَا فِيمَا يأَتي ، ويكون فيه جارياً عَلَى أَصل رَفْعِ الْحَرَجِ،
حَتَّى إِذا لَمْ يَسْتَطِعْهُ ، تَرَكَهُ ، وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ
الْمَنْدُوبَ لَا حَرَجَ فِي تَرْكِهِ فِي الْجُمْلَةِ.
ويُشْعِر بهذا المعنى: ما فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قالت: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى
نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ، وَمَا رأَيته
اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلا رَمَضَانَ ... ، الْحَدِيثَ .
فتأَمّلوا وَجْهَ اعْتِبَارِ النَّشَاطِ وَالْفَرَاغِ مِنَ الْحُقُوقِ
الْمُتَعَلِّقَةِ، أَو القوة في الأَعمال. وكذلك قوله ـ في صيام يوم وإِفطار يومين
ـ: "ليتني طُوِّقْتُ ذلك" ؛ إِنما يريد ـ والله أَعلم ـ الْمُدَاوَمَةَ؛ لِأَنَّهُ
قَدْ كَانَ يُوَالِي الصِّيَامَ حَتَّى يقولوا: لا يفطر ...
وَالثَّالِثُ: أَن دُخُولَ المَشَقَّة وَعَدَمَهُ عَلَى المكلَّف ، فِي الدَّوَامِ
أَو غَيْرِهِ : لَيْسَ أَمْرًا مُنْضَبِطًا، بل هو إضافي ، يختلف بِحَسَبِ
اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي قوَّة أَجسامهم، أَو فِي قُوَّةِ عَزَائِمِهِمْ، أَو فِي
قُوَّةَ يَقِينِهِمْ، أَو نحو ذلك من أَوصاف أَجسامهم وأَنْفُسِهِمْ ، فَقَدْ
يَخْتَلِفُ الْعَمَلُ الْوَاحِدُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رَجُلَيْنِ؛ لأَن أَحدهما
أَقوى جِسْمًا، أَو أَقوى عَزِيمَةً، أَو يقيناً بالموعود، وَالْمَشَقَّةُ قَدْ
تَضْعُفُ بِالنِّسْبَةِ إِلى قُوَّةِ هَذِهِ الأُمور وأَشباهها، وَتَقْوَى مَعَ
ضَعْفِهَا.
فَنَحْنُ نَقُولُ: كُلُّ عَمَلٍ يَشُقُّ الدَّوَامُ عَلَى مِثْلِهِ بِالنِّسْبَةِ
إِلَى زَيْدٍ : فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَا يَشُقُّ على عمرو : فَلَا يُنْهَى
عَنْهُ. فَنَحْنُ نَحْمِلُ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ الأَوّلون مِنَ الأَعمال عَلَى
أَنه لَمْ يَكُنْ شَاقًّا عَلَيْهِمْ؛ وإِن كَانَ مَا هُوَ أَقل مِنْهُ شَاقًّا
عَلَيْنَا ..." .
انتهى ملخصا من "الاعتصام" (2/185-191) .
فالحاصل أنه يشرع للمسلم أن
يكون له ورده من القرآن ، بحيث يقرؤه كل شهر ، وهو أيسر ما ورد الندب إليه في هذا
الحديث ، أو يختمه في أقل من ذلك ، متى كان يعلم من نفسه الوفاء ، فإن طرأ له نشاط
في حال آخر ، فقرأه في خمسة أيام أو عشرة ، أو أقل أو أكثر فلا حرج عليه في ذلك ،
ويكون ذلك كله زيادة على ورده الثابت الذي لا يدعه ، كالنافلة مع الفريضة .
قال الشيخ ابن باز رحمه الله :
" وصيتي لجميع قراء القرآن: الإكثار من قراءته بالتدبر والتعقل، والإخلاص لله مع
قصد الفائدة والعلم ، وأن يختمه في كل شهر، فإن تيسر أقل من ذلك فذلك خير عظيم ،
وله أن يختمه في أقل من سبع، والأفضل ألا يختمه في أقل من ثلاث " .
انتهى من "مجموع فتاوى ابن باز" (24/ 417) .
وانظر جواب السؤال رقم : (1406) ، ()
.
والله أعلم .