الإجابة
الحمد لله
أولا :
جماهير أهل العلم من القراء والأصوليين على أن القراءات السبع متواترة إلى النبي صلى الله عليه وسلم , وقد خالف في ذلك بعضهم كأبي شامة – في قول له - والطوفي والشوكاني . والقول في ذلك قول العامة ، وهو الصواب الذي لا معدل عنه .
قال شهاب الدين الدمياطي رحمه الله :
" قال تاج الأئمة السبكي – وهو تاج الدين عبد الوهاب السبكي - في فتاواه :
" القراءات السبع التي اقتصر عليها الشاطبي ، والثلاثة التي هي قراءة أبي جعفر وقراءة يعقوب وقراءة خلف ، متواترة معلوم من الدين بالضرورة أنه منزل على رسول الله ، لا يكابر في شيء من ذلك إلا جاهل ، وليس تواتر شيء منها مقصورا على من قرأ بالروايات ، بل هي متواترة عند كل مسلم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، ولو كان مع ذلك عاميا جلفا لا يحفظ من القرآن حرفا " .
قال : " ولهذا تقرير طويل وبرهان عريض لا تسعه هذه الورقة ، وحظ كل مسلم وحقه أن يدين لله تعالى وتجزم نفسه بأن ما ذكرناه متواتر معلوم باليقين ، لا تتطرق الظنون ولا الارتياب إلى شيء منه " .
والحاصل : أن السبع متواترة اتفاقا ، وكذا الثلاثة : أبو جعفر ويعقوب وخلف ، علي الأصح ، بل الصحيح المختار وهو الذي تلقيناه عن عامة شيوخنا وأخذنا به عنهم ، وبه نأخذ : أن الأربعة بعدها : ابن محيصن واليزيدي والحسن والأعمش ، شاذة اتفاقا " .
انتهى من " إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر" (ص 9) .
وقال النووي رحمه الله :
" قال أصحابنا وغيرهم : تجوز القراءة في الصلاة وغيرها بكل واحدة من القراءات السبع ، ولا تجوز القراءة في الصلاة ولا غيرها بالقراءة الشاذة ، لأنها ليست قرآنا ؛ فإن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر ، وكل واحدة من السبع متواترة ، هذا هو الصواب الذي لا يعدل عنه ، ومن قال غيره فغالط أو جاهل " انتهى من "المجموع" (3 /392) .
وقال ابن النجار الفتوحي رحمه الله :
" وَالْقِرَاءاتُ السَّبْعُ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الأَئِمَّةِ مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ ، نَقَلَهُ السَّرَخْسِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ مِنْ "الْغَايَةِ"، وَقَالَ : قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ : آحَاد "
انتهى من "شرح الكوكب المنير" (2 /127) .
وقال الزرقاني رحمه الله :
" والتحقيق الذي يؤيده الدليل هو أن القراءات العشر كلها متواترة ، وهو رأي المحققين من الأصوليين والقراء كابن السبكي وابن الجزري والنويري " انتهى من "مناهل العرفان" (1 /441) .
ثانيا :
قد يطرأ على بعض الأذهان شبهة أن أسانيد أئمة القراءات المذكورة في كتبهم معروفة محصورة ، وهي أسانيد آحاد ؛ فكيف يقال إن قراءاتهم متواترة ؟
فيقال : هذه شبهة قديمة ، قد أجاب عنها غير واحد من علماء القراءات والأصوليين ؛ فالأئمة المصنفون الذين عليهم مدار هذه القراءات ، وإليهم ترجع أسانيدها : لم يكونوا هم الذين ضبطوا هذه القراءات وجمعوها وحدهم ، بل تواترها حاصل في زمانهم ، وحاصل بعد زمانهم أيضا ، بمن شاركهم ، وشارك الآخذين عنهم ، في العلم بهذه القراءات وضبطها .
قال الإمام شرف الدين الدمياطي رحمه الله :
" أجيب بأن انحصار الأسانيد المذكورة في طائفة لا يمنع مجيء القراءات عن غيرهم ، وإنما نسبت القراءات إليهم لتصديهم لضبط الحروف وحفظ شيوخهم فيها ، ومع كل واحد منهم في طبقته ما يبلغها عدد التواتر .
هذا هو الذي عليه المحققون ، ومخالفة ابن الحاجب في بعض ذلك تعقبها محرر الفن ابن الجزري ، وأطال في كتابه المنجد بما ينبغي الوقوف عليه " .
انتهى من "إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر" (ص 9) .
وقال ابن النجار الفتوحي رحمه الله :
" وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ : إنَّهَا آحَادٌ كَالطُّوفِيِّ فِي "شَرْحِهِ" ، قَالَ : وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا تَوَاتَرَتْ عَنْهُمْ ، لا إلَيْهِمْ - بِأَنَّ أَسَانِيدَ الأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ بِهَذِهِ الْقِرَاءاتِ السَّبْعِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَوْجُودَةٌ فِي كُتُبِ الْقِرَاءاتِ ، وَهِيَ نَقْلُ الْوَاحِدِ عَنْ الْوَاحِدِ ، لَمْ تَسْتَكْمِلْ شُرُوطَ التَّوَاتُرِ .
وَرُدَّ : بِأَنَّ انْحِصَارَ الأَسَانِيدِ فِي طَائِفَةٍ لا يَمْنَعُ مَجِيءَ الْقِرَاءاتِ عَنْ غَيْرِهِمْ . فَقَدْ كَانَ يَتَلَقَّى الْقِرَاءَةَ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ بِقِرَاءَةِ إمَامِهِمْ الَّذِي مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ : الْجَمُّ الْغَفِيرُ عَنْ مِثْلِهِمْ . وَكَذَلِكَ دَائِمًا ، فَالتَّوَاتُرُ حَاصِلٌ لَهُمْ ، وَلَكِنَّ الأَئِمَّةَ الَّذِينَ قَصَدُوا ضَبْطَ الْحُرُوفِ وَحَفِظُوا شُيُوخَهُمْ فِيهَا جَاءَ السَّنَدُ مِنْ قِبَلِهِمْ ، وَهَذَا كَالأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ هِيَ آحَادٌ ، وَلَمْ تَزَلْ حَجَّةُ الْوَدَاعِ مَنْقُولَةً عَمَّنْ يَحْصُلُ بِهِمْ التَّوَاتُرُ عَنْ مِثْلِهِمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَفَطَّنَ لِذَلِكَ ، وَلا يُغْتَرَّ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّ أَسَانِيدَ الْقُرَّاءِ تَشْهَدُ بِأَنَّهَا آحَادٌ "
انتهى من "شرح الكوكب المنير" (2 /127-128) .
ثالثا :
قول السائل : كيف نقول بالتواتر ومصطلح متواترة لم يظهر قبل ابن مجاهد الذي سبع السبعة ؟
فالجواب عنه : أن التواتر معناه إفادة العلم اليقيني المقطوع به دون الظني ، وقد حصل العلم اليقيني بصحة القراءات السبع ، ونقلها على صفة التواتر الذي يفيد العلم اليقيني بمضمونها ؛ وهذا هو المطلوب ، بغض النظر عما إذا كان الاسم معروفا في هذا الزمان ، أو لم يكن معروفا ؛ فهذه مسألة فنية اصطلاحية ، تتعلق بالتصنيف في العلوم ومدارستها ، فما زالت العرب تنطق المبتدأ مرفوعا ، والمفعول به منصوبا ، والمضاف إليه مجرورا ، وهكذا ؛ ولو بعث أهل الجاهلية الآن ما عرف واحد منهم : ما المبتدأ ، وما الخبر ، بل ما عرف منهم أحد ما علم النحو الذي يتحدث عنه ، وبه ، الناس !!
وهكذا في علم الحديث ، وعلم أصول الفقه ، وغيرها من العلوم ؛ فتأخر ظهور المصطلح الخاص بعلم معين ، لا يعني أن مضمونه لم يكن معروفا من قبل عند أهل هذا الشأن .
وأما أن مضمونه لم يكن معروفا عند غير أهل الفن ، أو لم يكن شائعا بصورة عامة ؛ فهذا لا يقدح في وجود المضمون ، ولا ثبوت المسألة العلمية .
قال الإمام شمس الدين الذهبي رحمه الله :
" ليس من شرط التواتر أن يصل إلى كل الأمة ، فعند القراء أشياء متواترة دون غيرهم ، وعند الفقهاء مسائل متواترة عن أئمتهم لا يدريها القراء ، وعند المحدثين أحاديث متواترة قد لا يكون سمعها الفقهاء ، أو أفادتهم ظنا فقط ، وعند النحاة مسائل قطعية، وكذلك اللغويون " انتهى .
"سير أعلام النبلاء" (10 /171) .
راجع إجابة السؤال (5142) .
والله أعلم .