الإجابة
أصل السماع الذي أمر الله به: هو سماع ما جاء به الرسول صلى الله
عليه وسلم؛ سماع فقهٍ وقَبُول؛ ولهذا انقسم الناس فيه أربعة
أصناف:صنف معرض ممتنع عن سماعه،وصنف سمع الصوت ولم يفقه المعنى،
وصنف فقهه ولكنه لم يقبلْه، والرابع الذي سمعه سماع فقه
وقبول.
فالأول: كالذين قال فيهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا
لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].
والصنف الثاني: من سمع الصوت بذلك لكن لم يفقه المعنى. قال
تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ
دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ
يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]، وقال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي
آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ
بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}
[الأنعام: 25]، وقال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ
أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ
وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ
كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا
وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 42
ـ 44]، وقال تعالى: {وَإِذَا
قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ
يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا
وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى
أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ
إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ
الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا}
[الإسراء:45 ـ 47]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ
رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا
جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي
آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا
إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 57].
وقوله: {أَن
يَفْقَهُوهُ} يتناول من لم يفهم منه تفسير اللفظ كما يفهم
بمجرد العربية، ومن فهم ذلك لكن لم يعْلَم نفس المراد في الخارج
وهو: [الأعيان]، و[الأفعال]، و[الصفات] المقصودة بالأمر
والخبر؛ بحيث يراها ولا يعلم أنها مدلول الخطاب: مثل من يعلم وصفًا
مذمومًا ويكون هو متصفًا به، أو بعضًا من جنسه ولا يعلم أنه داخل فيه،
وقال تعالى: {إِنَّ شَرَّ
الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ
يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ
وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ}
[الأنفال: 22- 23]، قال ذلك بعد قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ
اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ
وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ
يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20-21]، فقوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا
لَّأسْمَعَهُمْ} لم يرد به مجرد إسماع الصوت لوجهين:
أحدهما: أن هـذا السماع لابـد منـه ولا تقـوم الحجـة على المدعوين
إلا بـه، كما قـال: {وَإِنْ أَحَدٌ
مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ
كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:
6]، وقال: {لأنذركم به ومن
بلغ} [الأنعام: 91]، وقال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ
رَسُولًا} [الإسراء: 15].
والثاني:أنه وحده لا ينفع؛ فإنه قد حصل لجميع الكفار الذين استمعوا
القرآن وكفروا به كما تقدم، بخلاف إسماع الفقه، فإن ذلك هو الذي يعطيه
الله لمن فيه خير، وهذا نظير ما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال وهذه الآية والحديث يدلان على أن من
لم يحصل له السماع الذي يفقه معه القول، فإن الله لم يعلم فيه خيرًا
ولم يرد به خيرًا، وأن من علم الله فيه خيرًا أو أراد به خيرًا فلا بد
أن يسمعه ويفقهه؛ إذ الحديث قد بيَّن أن كل من يرد الله به خيرًا
يفقهه؛ فالأول مستلزم للثاني، والصيغة عامة، فمن لم يفقهه لم يكن
داخلًا في العموم، فلا يكون الله أراد به خيرًا، وقد انتفي في حقه
اللازم فينتفي الملزوم.
وكذلك قوله:{وَلَوْ عَلِمَ
اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ}، بيَّن أن الأول شرط
للثاني؛شرطًا نحْويًا، وهو ملزوم وسبب،فيقتضى أن كل من علم الله فيه
خيرًا أسمعه هذا الإسماع، فمن لم يسمعه إياه لم يكن قد علم فيه خيرًا،
فتدبر كيف وجب هذا السماع،وهذا الفقه،وهذا حال المؤمنين،بخلاف الذين
يقولون بسماع لا فقه معه،أو فقه لا سماع معه أعنى هذا السماع.
وأما قوله: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ
لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ}، فقد يشكل على كثير من
الناس؛ لظنهم أن هذا السماع المشروط هو السماع المنفي في الجملة
الأولى، الذي كان يكون لو علم فيهم خيرًا، وليس في الآية ما يقتضى
ذلك، بل ظاهرها وباطنها ينافي ذلك؛فإن الضمير في قوله: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} عائد إلى
الضميرين في قوله:{وَلَوْ عَلِمَ
اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ}، وهؤلاء قد دل الكلام
على أن الله لم يعلم فيهم خيرًا، فلم يسمعهم؛ إذ [لو] يدل على عدم
الشرط دائمًا، وإذا كان الله ما علم فيهم خيرًا، فلو أسمعهم لتولوا
وهم معرضون، بمنزلة اليهود الذين قالوا سمعنا وعصينا، وهم الصنف
الثالث.
ودلت الآية على أنه ليس لكل من سمع وفقه يكون فيه خير، بل قد يفقه
ولا يعمل بعلمه فلا ينتفع به، فلا يكون فيه خيرًا.
ودلَّتْ أيضًا على أن إسماع التفهيم إنما يطلب لمن فيه خير، فإنه هو
الذي ينتفع به، فأما من ليس ينتفع به فلا يطلب تفهيمه.
والصنف الثالث: من سمع الكلام وفقهه، لكنه لم يقبله ولم يطع
أمره؛ كاليهود الذين قال الله فيهم: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا
وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ
وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ
وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ
يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا} [النساء: 46]، وقال
تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن
يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ
كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ} إلى قوله: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ
الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ} [البقرة:75-78] أي
تلاوة.
فهؤلاء من الصنف الأول الذين يسمعون ويقرؤون ولا يفقهون، أو يعقلون
إلى قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} إلى قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ
وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ
أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ
اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ
وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ
فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 83 - 88]، كما
قال في تلك الآية: {وَلَكِن
لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ
قَلِيلًا}، وقـال في النساء: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم
بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ
وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا
بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا وَبِكُفْرِهِمْ
وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا}
[النساء: 155- 156]، إلى آخر القصة، فأخبر بذنوبهم التي استحقوا
بها ما استحقوه، ومنها قولهم:{قُلُوبُنَا غُلْفٌ} .
فَعُلِم أنهم كاذبون في هذا القول، قاصدون به الامتناع من الواجب؛
ولهذا قال:{بَل لَّعَنَهُمُ
اللَّه}، و {طَبَعَ اللّهُ
عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}،فهي وإن سمعت الخطاب وفقهـته لا
تقبله ولا تؤمن به، لا تصديقًا له ولا طاعة، وإن عرفوه كما قال:
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} [البقرة:
146]، فـ {غُلْفٌ} جمع أغلف.
وأما (غُلُف) بالتحريك فجمع غلاف، والقلب الأغلف بمنزلة
الأقلف.
فهم ادعوا ذلك وهم كاذبون في ذلك، واللعنة: الإبعاد عن الرحمة،
فلو عملوا به لرحموا؛ ولكن لم يعملوا به، فكانوا مغضوبًا عليهم
ملعونين، وهذا جزاء من عرف الحق ولم يتبعه، وَفقِه كلام الرسل ولم يكن
موافقًا له بالإقرار تصديقًا وعملًا.
والصنف الرابع: الذين سمعوا سماع فِقْه وقبول، فهذا هو السماع
المأمور به، كما قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى
الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا
عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ}[المائدة: 83]، وقال تعالى:
{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ
اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا
عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ
بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 1- 2]، وقال تعالى:
{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا
مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا
أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ
مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ
وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ
اللَّهِ} الآيات [الأحقاف: 29 - 31]، وقال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ
مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ
سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا
لَمَفْعُولًا}الآية [الإسراء: 107- 108]، وقال تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ
عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:
2]، وقال تعالى: {وَإِذَا مَا
أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ
هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ
إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم
مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ
كَافِرُونَ} [التوبة: 124- 125]، وقال تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء
وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ
خَسَارًا} [الإسراء: 82]، وكذلك قوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء
وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ
عَمًى} [فصلت: 44]، ومثله قوله: {هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى
وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138]،
فالبيان يعم كل من فقهه، والهدى والموعظة للمتقين،وقوله: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى
وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ} [الجاثية:20]،
وقوله: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ
رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 1-
2].
وهنا لطيفة تُزيل إشكالًا يفهم هنا: وهو أنه ليس من شرط هذا المتقى
المؤمن أن يكون كان من المتقين المؤمنين قبل سماع القرآن، فإن هذا
أوَّلًا ممتنع؛ إذ لا يكون مؤمنًا متقيًا من لم يسمع شيئــًا من
القرآن.
وثانيًا: أن الشرط إنما يجب أن يقارن المشروط، لا يجب أن يتقدمه
تقدمًا زمانيًا، كاستقبال القبلة في الصلاة.
وثالثًا: أن المقصود أن يُبَيِّن شيئان:
أحدهما: أن الانتفاع به بالاهتداء والاتعاظ والرحمة هو وإن كان
موجبًا له لكن لابد مع الفاعل من القابل؛ إذ الكلام لا يؤثر فيمن لا
يكون قابلا له، وإن كان من شأنه أن يهدى ويعظ ويرحم، وهذا حال كل
كلام.
الثاني: أن يُبيِّن أن المهتدين بهذا هم المؤمنون المتقون،
ويستدل بعدم الاهتداء به على عدم الإيمان والتقوى، كما يقال:
المتعلمون لكتاب بُقراط هم الأطباء، وإن لم يكونوا أطباء قبل تعلمه؛
بل بتعلمه وكما يقال: كتاب سيبويه كتاب عظيم المنفعة للنحاة، وإن
كانوا إنما صاروا نحاة بتعلمه، وكما يقال: هذا مكان موافق للرُّماة
والرِّكاب [الرِّكاب: الإبل التي يسار عليها].
___________________
المجلد السادس عشر
مجموع الفتاوي لابن تيمية