الإجابة
الحمد لله
قال الله تعالى :
(وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ
أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) التوبة/ 3
والمعنى : أن الله برئ من المشركين ، ورسوله برئ منهم .
وقد قرأ جماهير القراء هذه الكلمة : (ورسولُه) بالضم ، على الابتداء ، وخبره محذوف
، والتقدير: "وَرَسُولُهُ بَرِيءٌ مِنْهُمْ".
وقرئ (ورسولَه) بالنصب، عطفا على لفظ الجلالة المنصوب بـ (أنّ) .
وقرئ - شاذا - (ورسولِه) بالخفض ؛ على إرادة القسم ، أو المجاورة .
وهذه قراءة شاذة ، رويت عن الحسن البصري - وليس الحسن بن علي - ولا تصح عنه ،
ولا تجوز هذه القراءة عند
العلماء ؛ لأنها توهم أن الله بريء من المشركين ، ومن رسوله ، وهذا باطل محال،
واعتقاده كفر.
وفي القول بالخفض هنا على الجوار ، أو القسم : تكلف واضح ، لا حاجة إليه ما دامت
القراءة لم تثبت .
قال أبو حيان رحمه الله في "البحر المحيط" (5/ 367):
" قَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ:
(وَرَسُولَهُ) بِالنَّصْبِ، عَطْفًا عَلَى لَفْظِ اسْمِ أَنَّ. وَأَجَازَ
الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ .
وقرىء بِالْجَرِّ شَاذًّا، وَرُوِيَتْ عَنِ الْحَسَنِ . وَخُرِّجَتْ عَلَى
الْعَطْفِ عَلَى الْجِوَارِ ، كَمَا أَنَّهُمْ نَعَتُوا وَأَكَّدُوا عَلَى
الْجِوَارِ. وَقِيلَ: هِيَ وَاوُ الْقَسَمِ.
وَأَمَّا قِرَاءَةُ
الْجُمْهُورِ بِالرَّفْعِ فَعَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ:
"وَرَسُولُهُ بَرِيءٌ مِنْهُمْ"، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ "
انتهى .
وقال ابن عاشور رحمه الله:
" وَعُطِفَ (وَرَسُولُهُ) بِالرَّفْعِ ، عِنْدَ الْقُرَّاءِ كُلِّهِمْ: لِأَنَّهُ
مِنْ عَطْفِ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ السَّامِعَ يَعْلَمُ مِنَ الرَّفْعِ أَنَّ
تَقْدِيرَهُ: "وَرَسُولُهُ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ"، فَفِي هَذَا الرَّفْعِ
مَعْنًى بَلِيغٌ مِنَ الْإِيضَاحِ لِلْمَعْنَى ، مَعَ الْإِيجَازِ فِي اللَّفْظِ،
وَهَذِهِ نُكْتَةٌ قُرْآنِيَّةٌ بَلِيغَةٌ.
وَمِمَّا يَجِبُ
التَّنْبِيهُ لَهُ: مَا فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ
قِرَاءَةُ (وَرَسُولِهِ)- بالجرّ- وَلم يصحّ نِسْبَتُهَا إِلَى الْحَسَنِ .
وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ جَرُّ (وَرَسُولِهِ) ، وَلَا عَامل يقتضي جَرَّهُ ؟!" انتهى
من " التحرير والتنوير"(10/ 109) .
وقال الشوكاني رحمه الله :
" قَوْلُهُ: (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) ....
وَقُرِئَ (وَرَسُولِهِ) بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِلْقَسَمِ ، رُوِيَ
ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةٌ جِدًّا، إِذْ لَا مَعْنَى
لِلْقَسَمِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاهُنَا ،
وَقِيلَ إِنَّهُ مَجْرُورٌ عَلَى الْجِوَارِ " .
انتهى من " فتح القدير " (2/ 381) .
وقال الشيخ عبد القادر العاني رحمه الله:
" (رسوله) مرفوع، وقرأه بعضهم منصوبا ، عطفا على لفظة الجلالة ، أي أن الله برىء ،
وأن رسوله بريء منهم.
ولا تجوز قراءة الجر على زعم الجر بالتوهم أو بالمجاورة أو بالتبعية " .
انتهى من " بيان المعاني " (6/ 405) .
وقول القائل : " أن الإعراب
لا فائدة منه " نظرا لتعدد القراءات في الآية الواحدة ، فيقال من جوابه : "بل تعدد
القراءات أدل على أهمية الإعراب ، وأدعى للعناية بالعربية وعلومها ! فإنه إذا كانت
هذه القراءة صحيحة ، فالإعراب وعلوم العربية هي التي تبين المعنى الصحيح لذلك،
وتنفي الباطل ، وترفع الإشكال . وإن كانت باطلة ، فلا وجه للاحتجاج بها ، ثم إن
بطلانها من حيث المعنى ، يتوقف على معرفة العربية والإعراب أيضا .
قال ياقوت الرومي رحمه الله : " وبعد فهذه أخبار قوم أخذ عنهم علم القرآن المجيد،
والحديث المفيد وهم أنهجوا طريق العربية ، وأناروا سرجه المضيّة وبصناعتهم تنال
الإمارة ، وببضاعتهم يستقيم أمر السلطان والوزارة، وبعلمهم يتمّ الإسلام ،
وباستنباطهم يعرف الحلال من الحرام. ألا ترى أنّ القارىء إذا قرأ (أن الله بريء من
المشركين ورسوله) - بالرفع- فقد سلك طريقا من الصواب واضحا، وركب منهجا من الفضل
لائحا، فإن كسر اللام من رسوله كان كفرا بحتا وجهلا قحّا ؟" انتهى ، من "معجم
الأدباء" (1/10) .
وقد قيل : إن هذه القراءة ، كانت السبب في وضع علم النحو . " قَالَ أَبُو
عُبَيْدَةَ: أَخَذَ أَبُو الأَسْوَدِ عَنْ عَلِيٍّ العَرَبِيَّةَ، فَسَمِعَ
قَارِئاً يَقْرَأُ: (أَنَّ اللهَ بَرِيْءٌ مِنَ المُشْرِكِيْنَ وَرَسُوْلِهِ) -
بِكَسْرِ اللاَّمِ بَدَلاً عَنْ ضَمِّهَا –التَّوْبَةُ/ 3 ، فَقَالَ: " مَا
ظَنَنْتُ أَنَّ أَمْرَ النَّاسِ قَدْ صَارَ إِلَى هَذَا " ـ انتهى من "النبلاء"
(4/83) ، وانظر : "معجم الأدباء" (4/1466) .
وينظر قصة قريبة منها ، لعمر بن الخطاب ، مع أعرابي قرأ الآية بالجر في "نزهة
الألباء"، لابن الأنباري (1/19-20) .
والله تعالى أعلم .