يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا أَعْطِنَا إِيَّاهُ قَالَ: وَيْحَكُمْ سَلُونِي غَيْرَ هَذَا فَقَالُوا: لَا نَسْأَلُكُ شَيْئًا غَيْرَهُ، فَخَافَ عَلَى مُلْكِهِ إِنْ هُوَ أَخْلَفَهُمْ أَنْ يَسْتَحِلَّ بِذَلِكَ خَلْعُهُ، فَبَعَثَ إِلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَهُوَ جَالِسٌ فِي مِحْرَابِهِ يُصَلِّي، فَذَبَحُوهُ فِي طَسْتٍ ثُمَّ حَزُّوَا رَأْسَهُ، فَاحْتَمَلَهُ رَجُلٌ فِي يَدِهِ وَالدَّمُ يُحْمَلُ فِي الطَّسْتِ مَعَهُ. قَالَ: فَطَلَعَ بِرَأْسِهِ يَحْمِلُهُ حَتَّى وَقَفَ بِهِ عَلَى الْمَلِكِ، وَرَأْسُهُ يَقُولُ فِي يَدَيِ الَّذِي يَحْمِلُهُ لَا يَحِلُّ لَكَ ذَلِكَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ لَوْ أَنَّكَ وَهَبْتَ لِي هَذَا الدَّمَ؟ فَقَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: أُطَهِّرُ مِنْهُ الْأَرْضَ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ ضَيَّقَهَا عَلَيْنَا، فَقَالَ: أَعْطُوهُ هَذَا الدَّمَ، فَأَخَذَهُ فَجَعَلَهُ فِي قُلَّةٍ، ثُمَّ عَمَدَ بِهِ إِلَى بَيْتٍ فِي الْمَذْبَحِ، فَوَضَعَ الْقُلَّةَ فِيهِ، ثُمَّ أَغْلَقَ عَلَيْهِ، فَفَارَ فِي الْقُلَّةِ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا مِنْ تَحْتِ الْبَابِ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلُ ذَلِكَ، فَظِعَ بِهِ، فَأَخْرَجَهُ فَجَعَلَهُ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَجَعَلَ يَفُورُ، وَعَظُمَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أُقِرَّ مَكَانَهُ فِي الْقُرْبَانِ وَلَمْ يُحَوَّلْ
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا رَفَعَ اللَّهُ عِيسَى مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَقَتَلُوا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا (وَبَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ: وَقَتَلُوا زَكَرِيَّا) ابْتَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ بَابِلَ يُقَالُ لَهُ خَرْدُوسُ، فَسَارَ إِلَيْهِ بِأَهْلِ بَابِلَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِمُ الشَّامَ، فَلَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَمَرَ رَأْسًا مِنْ رُءُوسِ جُنْدِهِ يُدْعَى نَبُورَ زَاذَانَ صَاحِبُ الْقَتْلِ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ كُنْتُ حَلَفْتُ بِإِلَهِي لَئِنْ أَظْهَرَنَا عَلَى أَهْلِ بَيْتِ -[٥٠٠]- الْمَقْدِسِ لَأَقْتُلَنَّهُمْ حَتَّى تَسِيلَ دِمَاؤُهُمْ فِي وَسَطِ عَسْكَرِي، إِلَّا أَنْ لَا أَجِدَ أَحَدًا أَقْتُلَهُ، فَأَمَرَ أَنْ يَقْتُلَهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ ذَلِكَ مِنْهُمْ نبور زادان، فَدَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي كَانُوا يَقْرَبُونَ فِيهَا قُرْبَانَهُمْ، فَوَجَدَ فِيهَا دَمًا يَغْلِي، فَسَأَلَهُمْ فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، مَا شَأْنُ هَذَا الدَّمِ الَّذِي يَغْلِي، أَخْبِرُونِي خَبَرَهُ وَلَا تَكْتُمُونِي شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ؟ فَقَالُوا: هَذَا دَمُ قُرْبَانٍ كَانَ لَنَا كُنَّا قَرَّبْنَاهُ فَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَّا، فَلِذَلِكَ هُوَ يَغْلِي كَمَا تَرَاهُ وَلَقَدْ قَرَّبْنَا مُنْذُ ثَمَانِ مِائَةِ سَنَةٍ الْقُرْبَانَ فَتُقُبِّلَ مِنَّا إِلَّا هَذَا الْقُرْبَانَ قَالَ: مَا صَدَقْتُمُونِي الْخَبَرَ قَالُوا لَهُ: لَوْ كَانَ كَأَوَّلِ زَمَانِنَا لَقُبِلَ مِنَّا، وَلَكِنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ مِنَّا الْمُلْكُ وَالنُّبُوَّةُ وَالْوَحْي، فَلِذَلِكَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَّا فَذَبَحَ مِنْهُمْ نبور زادان عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ سَبْعَ مِائَةٍ وَسَبْعِينَ رُوحًا مِنْ رُءُوسِهِمْ، فَلَمْ يَهْدَأْ، فَأَمَرَ بِسَبْعِ مِائَةِ غُلَامٍ مِنْ غِلْمَانِهِمٍ فَذُبِحُوا عَلَى الدَّمِ فَلَمْ يَهْدَأْ، فَأَمَرَ بِسَبْعَةِ آلَافٍ مِنْ شِيَعِهِمٍ وَأَزْوَاجِهِمْ، فَذَبَحَهُمْ عَلَى الدَّمِ فَلَمْ يَبْرُدْ وَلَمْ يَهْدَأْ، فَلَمَّا رَأَى نبور زاذان أَنَّ الدَّمَ لَا يَهْدَأُ قَالَ لَهُمْ: وَيْلَكُمْ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، اصْدُقُونِي وَاصْبِرُوا عَلَى أَمْرِ رَبِّكُمْ، فَقَدْ طَالَ مَا مَلَكْتُمْ فِي الْأَرْضِ، تَفْعَلُونَ فِيهَا مَا شِئْتُمْ قَبْلَ أَنْ لَا أَتْرُكَ مِنْكُمْ نَافِخَ نَارٍ، لَا أُنْثَى وَلَا ذَكَرًا إِلَّا قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا رَأَوُا الْجَهْدَ وَشِدَّةَ الْقَتْلِ صَدَقُوهُ الْخَبَرَ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ هَذَا دَمُ نَبِيٍّ مِنَّا كَانَ يَنْهَانَا عَنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، فَلَوْ أَطَعْنَاهُ فِيهَا لَكَانَ أَرْشَدَ لَنَا، وَكَانَ يُخْبِرُنَا بِأَمْرِكُمْ، فَلَمْ نُصَدِّقْهُ، فَقَتَلْنَاهُ، فَهَذَا دَمُهُ فَقَالَ لَهُمْ نبور زاذان: مَا كَانَ اسْمُهُ؟ قَالُوا: يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، قَالَ: الْآنَ صَدَقْتُمُونِي بِمِثْلِ هَذَا يَنْتَقِمُ رَبُّكُمْ مِنْكُمْ، فَلَمَّا رَأَى نبور زاذان أَنَّهُمْ صَدَقُوهُ خَرَّ سَاجِدًا وَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: غَلِّقُوا الْأَبْوَابَ، أَبْوَابَ الْمَدِينَةِ، وَأَخْرِجُوا مَنْ كَانَ هَهُنَا مِنْ جَيْشِ خَرْدُوسَ. وَخَلَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ قَالَ: يَا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، قَدْ عَلِمَ رَبِّي وَرَبُّكَ مَا قَدْ أَصَابَ قَوْمَكَ مِنْ أَجْلِكَ، وَمَا قُتِلَ مِنْهُمْ مِنْ أَجْلِكَ، فَاهْدَأْ بِإِذْنِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ لَا أُبْقِيَ مِنْ قَوْمِكَ أَحَدًا فَهَدَأَ دَمُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَرَفَعَ نبور زاذان عَنْهُمُ الْقَتْلَ وَقَالَ: آمَنْتُ بِمَا آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَصَدَّقْتُ وَأَيْقَنْتُ -[٥٠١]- أَنَّهُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ آخَرُ لَمْ يَصْلُحْ، وَلَوْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ لَمْ تَسْتَمْسِكِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ لَمْ يَصْلُحْ، فَتَبَارَكَ وَتَقَدَّسَ، وَتَسَبَّحَ وَتَكَبَّرَ وَتَعَظَّمَ، مَلِكُ الْمُلُوكِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ، وَمَا بَيْنَهُمَا، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَلَهُ الْحِلْمُ وَالْعِلْمُ وَالْعِزَّةُ وَالْجَبَرُوتُ، وَهُوَ الَّذِي بَسَطَ الْأَرْضَ وَأَلْقَى فِيهَا رَوَاسِيَ لِئَلَّا تَزُولَ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِرَبِّي أَنْ يَكُونَ وَيَكُونُ مُلْكُهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى رَأْسٍ مِنْ رُءُوسِ بَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ نبورَ زَاذَانَ حَبُورٌ صَدُوقٌ، وَالْحَبُورُ بِالْعِبْرَانِيَّةَ: حَدِيثُ الْإِيمَانِ. وَإِنَّ نبورزَاذَانَ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ خَرْدُوسَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْتُلَ مِنْكُمْ حَتَّى تَسِيلَ دِمَاؤُكُمْ وَسَطَ عَسْكَرِهِ، وَإِنِّي لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَعْصِيَهُ. قَالُوا لَهُ: افْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ. فَأَمَرَهُمْ فَحَفَرُوا خَنْدَقًا وَأَمَرَ بِأَمْوَالِهِمْ مِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْإِبِلِ، فَذَبَحَهَا حَتَّى سَالَ الدَّمُ فِي الْعَسْكَرِ، وَأَمَرَ بِالْقَتْلَى الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ، فَطُرِحُوا عَلَى مَا قَتَلَ مِنْ مَوَاشِيهِمْ حَتَّى كَانُوا فَوْقَهُمْ، فَلَمْ يَظُنَّ خَرْدُوسُ إِلَّا أَنَّ مَا كَانَ فِي الْخَنْدَقِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَلَمَّا بَلَغَ الدَّمُ عَسْكَرَهُ، أَرْسَلَ إِلَى نبور زاذان أَنِ ارْفَعْ عَنْهُمْ، فَقَدْ بَلَغَتْنِي دِمَاؤُهُمْ، وَقَدِ انْتَقَمْتُ مِنْهُمْ بِمَا فَعَلُوا، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُمْ إِلَى أَرْضِ بَابِلَ، وَقَدْ أَفْنَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ كَادَ، وَهِيَ الْوَقْعَةُ الْآخِرَةُ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ. يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أَوْلَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلْيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلْيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ وَعَسَى مِنَ اللَّهِ حَقٌّ، فَكَانَتِ الْوَقْعَةُ الْأُولَى: بُخْتَنَصَّرَ وَجُنُودُهُ، ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ الْآخِرَةُ خَرْدُوسَ وَجُنُودُهُ، وَهِيَ كَانَتْ أَعْظَمُ الْوَقْعَتَيْنِ، فِيهَا كَانَ خَرَابُ بِلَادِهِمْ، وَقَتْلُ رِجَالِهِمْ، -[٥٠٢]- وَسَبْي ذَرَارِيهِمْ وَنِسَائِهِمْ. يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَلْيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ [الإسراء: ٧] ثُمَّ عَادَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَأَكْثَرَ عَدَدَهُمْ، وَنَشَرَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ، ثُمَّ بَدَّلُوا وَأَحْدَثُوا الْأَحْدَاثَ، وَاسْتَبْدَلُوا بِكِتَابِهِمْ غَيْرَهُ، وَرَكِبُوا الْمَعَاصِيَ، وَاسْتَحَلُّوا الْمَحَارِمَ وَضَيَّعُوا الْحُدُودَ


الصفحة التالية
Icon