مِنَ الْأُخْرَى، وَإِنَّ دِمَاغِي لَيَسِيلُ مِنْ فَمِي. تَسَاقَطَ شَعْرِي عَنِّي، فَكَأَنَّمَا حُرِّقَ بِالنَّارِ وَجْهِي، وَحَدَقَتَايَ هُمَا مُتَدَلِّيَتَانِ عَلَى خَدِّي، وَرِمَ لِسَانِي، حَتَّى مَلَأَ فَمِي، فَمَا أُدْخِلُ فِيهِ طَعَامًا إِلَّا غَصَّنِي، وَوَرِمَتْ شَفَتَايَ، حَتَّى غَطَّتِ الْعُلْيَا أَنْفِي، وَالسُّفْلَى ذَقْنِي. تَقَطَّعَتْ أَمْعَائِي فِي بَطْنِي، فَإِنِّي لَأُدْخِلُ الطَّعَامَ فَيَخْرُجُ كَمَا دَخَلَ، مَا أُحِسُّهُ، وَلَا يَنْفَعُنِي. ذَهَبَتْ قُوَّةُ رِجْلَيَّ، فَكَأَنَّهُمَا قِرْبَتَا مَاءٍ مُلِئَتَا، لَا أُطِيقُ حَمْلَهُمَا. أَحْمِلُ لِحَافِي بِيَدِي، وَأَسْنَانِي، فَمَا أُطِيقُ حَمْلَهُ حَتَّى يَحْمِلَهُ مَعِي غَيْرِي. ذَهَبَ الْمَالُ، فَصِرْتُ أَسْأَلُ بِكَفِّي، فَيُطْعِمُنِي مَنْ كُنْتُ أَعُولُهُ اللُّقْمَةَ الْوَاحِدَةَ، فَيَمُنُّهَا عَلَيَّ، وَيُعَيِّرُنِي. هَلَكَ بَنِيَّ وَبَنَاتِي، وَلَوْ بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ أَعَانَنِي عَلَى بَلَائِي وَنَفَعَنِي. وَلَيْسَ الْعَذَابُ بِعَذَابِ الدُّنْيَا، إِنَّهُ يَزُولُ عَنْ أَهْلِهَا، وَيَمُوتُونَ عَنْهُ، وَلَكِنْ طُوبَى لِمَنْ كَانَتْ لَهُ رَاحَةٌ فِي الدَّارِ الَّتِي لَا يَمُوتُ أَهْلُهَا، وَلَا يَتَحَوَّلُونَ عَنْ مَنَازِلِهِمْ، السَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ هُنَالِكَ، وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِيهَا قَالَ بَلْدَدُ: كَيْفَ يَقُومُ لِسَانُكَ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَكَيْفَ تُفْصِحُ بِهِ؟ أَتَقُولُ إِنَّ الْعَدْلَ يَجُورُ، أَمْ تَقُولُ إِنَّ الْقَوِيَّ يَضْعُفُ؟ ابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ، وَتَضَرَّعْ إِلَى رَبِّكَ، عَسَى أَنْ يَرْحَمَكَ، وَيَتَجَاوَزَ عَنْ ذَنْبِكَ، وَعَسَى إِنْ كُنْتَ بَرِيئًا أَنْ يَجْعَلَ هَذَا لَكَ ذُخْرًا فِي آخِرَتِكَ وَإِنْ كَانَ قَلْبُكَ قَدْ قَسَا، فَإِنَّ قَوْلَنَا لَنْ يَنْفَعَكَ، وَلَنْ يَأْخُذَ فِيكَ، هَيْهَاتَ أَنْ تَنْبُتَ الْآجَامُ فِي الْمَفَاوِزِ، وَهَيْهَاتِ أَنْ يَنْبُتَ الْبَرْدِيُّ فِي الْفَلَاةِ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى الضَّعِيفِ كَيْفَ يَرْجُو أَنْ يَمْنَعَهُ، وَمَنْ جَحَدَ الْحَقَّ كَيْفَ يَرْجُوُ أَنْ يُوَفَّى حَقَّهُ؟