وَقَوْلُ عِكْرِمَةَ، هَذَا وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ مِنْ صِلَةِ فِعْلِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَ ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّهُ لَهُ: مُخَالِفٌ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْوَاجِبَ مِنَ الْقِرَاءَةِ عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِ عِكْرِمَةَ، هَذَا فِي الْمَلَائِكَةِ الْخَفْضُ، لِأَنَّهُ تَأَوَّلَ الْآيَةَ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَفِي الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْتِي فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَالْمَلَائِكَةِ حَوْلَهُ. هَذَا إِنْ كَانَ وَجْهُ قَوْلِهِ، وَالْمَلَائِكَةِ حَوْلَهُ، إِلَى أَنَّهُمْ حَوْلَ الْغَمَامِ، وَجَعَلَ الْهَاءَ فِي «حَوْلَهُ» مِنْ ذِكْرِ الْغَمَامِ؛ وَإِنْ كَانَ وَجْهُ قَوْلِهِ: وَالْمَلَائِكَةُ حَوْلَهُ إِلَى أَنَّهُمْ حَوْلَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَجَعَلَ الْهَاءَ فِي «حَوْلَهُ» مِنْ ذِكْرِ الرَّبِّ عَزَّ جَلَّ، فَقَوْلُهُ نَظِيرُ قَوْلِ الْآخَرِينَ الَّذِينَ قَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُمْ غَيْرَ مُخَالِفَهُمْ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ قَوْلُهُ ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ [البقرة: ٢١٠] مِنْ صِلَةِ فِعْلِ الْمَلَائِكَةِ، وَإِنَّمَا تَأْتِي الْمَلَائِكَةُ فِيهَا، وَأَمَّا الرَّبُّ تَعَالَى ذِكْرُهُ فَإِنَّهُ يَأْتِي فِيمَا شَاءَ
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: " ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةِ﴾ [البقرة: ٢١٠].. الْآيَةَ، قَالَ: ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ. قَالَ: الْمَلَائِكَةُ يَجِيئُونَ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يَجِيءُ فِيمَا شَاءَ " وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَنْ وَجَّهَ قَوْلَهُ: ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ [البقرة: ٢١٠] إِلَى أَنَّهُ مِنْ صِلَةِ فِعْلِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَتَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ
كَمَا حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا -[٦١٠]- إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُخْتَارِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ زَمْعَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنَ الْغَمَامِ طَاقَاتٌ يَأْتِي اللَّهُ فِيهَا مَحْفُوفًا» وَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةِ وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ [البقرة: ٢١٠] " وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ [البقرة: ٢١٠] فَإِنَّهُ مَا يَنْظُرُونَ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ بِعِلَلَهِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا قَبْلُ. ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي صِفَةِ إِتْيَانِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الَّذِي ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢١٠] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا صِفَةَ لِذَلِكَ غَيْرُ الَّذِي وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالنُّزُولِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ تَكَلُّفُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا بِخَبَرٍ مِنَ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، أَوْ مِنْ رَسُولٍ مُرْسَلٍ. فَأَمَّا الْقَوْلُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِخْرَاجِ إِلَّا بِمَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ آخَرُونَ: إِتْيَانُهُ عَزَّ وَجَلَّ نَظِيرُ مَا يُعْرَفُ مِنْ مَجِيءِ الْجَائِي مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ وَانْتِقَالِهِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢١٠] يَعْنِي بِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ أَمْرُ اللَّهِ، كَمَا يُقَالُ: قَدْ خَشِينَا أَنْ يَأْتِيَنَا بَنُو أُمَيَّةَ، يُرَادُ بِهِ حُكْمُهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ ثَوَابُهُ وَحِسَابُهُ وَعَذَابُهُ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ [سبأ: ٣٣] وَكَمَا يُقَالُ: قَطَعَ الْوَالِي اللِّصَّ أَوْ ضَرَبَهُ، وَإِنَّمَا قَطَعَهُ أَعْوَانُهُ. -[٦١١]- وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْغَمَامِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا قَبْلُ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ تَكْرِيرِهِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ هَاهُنَا هُوَ مَعْنَاهُ هُنَالِكَ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا: هَلْ يَنْظُرُ التَّارِكُونَ الدُّخُولَ فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَالْمُتَّبِعُونَ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، فَيَقْضِي فِي أَمْرِهِمْ مَا هُوَ قَاضٍ


الصفحة التالية