: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا﴾ [آل عمران: ٣٣] ثُمَّ جَمَعَ جَمِيعَ ذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ ﴿ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٢]، فَقَالَ: هَذِهِ الْأَنْبَاءُ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ: أَيْ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ، وَيَعْنِي بِالْغَيْبِ، أَنَّهَا مِنْ خَفِيِّ أَخْبَارِ الْقَوْمِ الَّتِي لَمْ تَطَّلِعْ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ عَلَيْهَا وَلَا قَوْمُكَ، وَلَمْ يَعْلَمْهَا إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَرُهْبَانِهِمْ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَوْحَى ذَلِكَ إِلَيْهِ حُجَّةً عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَتَحْقِيقًا لِصِدْقِهِ، وَقَطْعًا مِنْهُ بِهِ عُذْرَ مُنْكِرِي رِسَالَتِهِ مِنْ كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَصِلْ إِلَى عِلْمِ هَذِهِ الْأَنْبَاءِ مَعَ خَفَائِهَا وَلَمْ يُدْرِكْ مَعْرِفَتَهَا مَعَ خُمُولِهَا عِنْدَ أَهْلِهَا إِلَّا بِإِعْلَامِ اللَّهِ ذَلِكَ إِيَّاهُ، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِّيٌّ لَا يَكْتُبُ فَيَقْرَأُ الْكُتُبَ فَيَصِلُ إِلَى عِلْمِ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْكُتُبِ، وَلَا صَاحَبَ أَهْلَ الْكِتَابِ فَيَأْخُذُ عِلْمَهُ مِنْ قِبَلِهِمْ. وَأَمَّا الْغَيْبُ: فَمَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: غَابَ فُلَانٌ عَنْ كَذَا، فَهُوَ يَغِيبُ عَنْهُ غَيْبًا وَغَيْبَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ [آل عمران: ٤٤] فَإِنَّ تَأْوِيلَهُ: نُنْزِلُهُ إِلَيْكَ. وَأَصْلُ الْإِيحَاءِ: إِلْقَاءُ الْمُوحِي إِلَى الْمُوحَى إِلَيْهِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِكِتَابٍ وَإِشَارَةٍ وَإِيمَاءٍ وَبِإِلْهَامٍ وَبِرِسَالَةٍ كَمَا قَالَ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ [النحل: ٦٨] بِمَعْنَى: أَلْقَى ذَلِكَ إِلَيْهَا فَأَلْهَمَهَا، وَكَمَا قَالَ: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ﴾ [المائدة: ١١١] بِمَعْنَى: أَلْقَيْتُ إِلَيْهِمْ عِلْمَ ذَلِكَ إِلْهَامًا، وَكَمَا قَالَ الرَّاجِزُ:
[البحر الرجز]


الصفحة التالية
Icon