الحفظة فضلاً عن العليم الخبير ﴿هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر﴾ أي هو تعالى بقدرته الذي يحملكم في البر على الدواب، وفي البحر على السفن التي تسير على وجه الماء ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك﴾ أي حتى إذا كنتم في البحر على ظهور هذه السفن ﴿وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ فيه التفات أي وجرين بهم بالريح الليِّنة الطرية التي تسيَّر السفن ﴿وَفَرِحُواْ بِهَا﴾ أي فرح الركاب بتلك الريح الطيبة ﴿جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ﴾ أي وفجأةً جاءتها الريح الشديدة العاصفة المدمّرة ﴿وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ﴾ أي وأحاطت بهم أمواج البحار من كل جهة ﴿وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾ أي أيقنوا بالهلاك ﴿دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ أي أخلصوا الدعاء لله وتركوا ما كانوا يعبدون، قال القرطبي: وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إِلى الله في الشدائد، وأن المضطر يجاب دعاؤه وإن كان كافراً، لانقطاع الأسباب، ورجوعه إلى ربّ الأرباب ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين﴾ أي لئن أنقذتنا من هذه الشدائد والأهوال لنكونن من الشاكرين لك على نعمائك، والعاملين بطاعتك ومرضاتك قال في البحر: ومعنى الإِخلاص إفراده بالدعاء من غير إشراك أصنام وغيرها وقال الحسن: مخلصين لا إخلاص إيمان ولكن لأجل العلم بأنهم لا ينجيهم من ذلك إلا الله فيكون ذلك جارياً مجرى الإِيمان الاضطراري ﴿فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق﴾ أي فلما خلّصهم وأنقذهم إذا هم يعملون في الأرض بالفساد والمعاصي قال ابن عباس: يبغون بالدعاء فيدعون غير الله ويعملون بالمعاصي قال تعالى رداً عليهم ﴿ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ﴾ أي وبالُ البغي عليكم، ولا يجني ثمرته إلا أنتم ﴿مَّتَاعَ الحياة الدنيا﴾ أي تتمتعون في هذه الحياة بالشهوات الفانية، التي تعقبها الحسرات الباقية ﴿ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي مرجعكم بعد الموت إلينا فنجازيكم عليها، وفي هذا وعيدً وتهديد.
والآية الكريمة تمثيلٌ لطبيعة الإِنسان الجحود، لا يذكر الله إلا في ساعة العسرة، ولا يرجع إليه إلا وقت الكرب والشدة، فإِذا نجّاه الله من الضيق، وكشف عنه الكرب، رجع إلى الكفر والعصيان، وتمادى في الشرِّ والطغيان. ثم ضرب تعالى مثلاً للحياة الدنيا الزائلة الفانية وقصِّر مدة التمتع بها فقال ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض﴾ أي صفة الحياة الدنيا وحالها العجيبة في فنائها وزوالها، وذهاب نعيمها واغترار الناس بها كمثل مطر نزل من السماء فنبت به أنواع من النبات مختلط بعضها ببعض قال ابن عباس: اختلط فنبت بالماء كلُّ لون ﴿مِمَّا يَأْكُلُ الناس والأنعام﴾ أي مما يأكله الناس من الحبوب والثمار والبقول، والأنعامُ من الكلأ والتبن والشعير ﴿حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا﴾ أي أخذت حسنها وبهجتها ﴿وازينت﴾ أي تزينت بالحبوب والثمار والأزهار، وهو تمثيلٌ بالعروس إِذا تزينت بالحلي والثياب ﴿وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ﴾ أي وظنَّ أصحابها أنهم متمكنون من الانتفاع بها، محصّلون لثمرتها وغلّتها ﴿أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً﴾ أي جاءها قضاؤنا بهلاك ما عليها من النبات إمّا ليلاً وإمّا نهاراً ﴿فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً﴾ أي محصودة مقطوعة لا شيء فيها