قال تعالى رداً عليهم وتوبيخاً ﴿أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ أي ألا يعلم هؤلاء اليهود أن الله يعلم ما يخفون وما يظهرون، وأنه تعالى لا تخفى عليه خافية، فكيف يقولون ذلك ثم يزعمون الإِيمان!!
ولما ذكر تعالى العلماء الذين حرّفوا وبدّلوا، ذكر العوام الذين قلدوهم ونبّه أنهم في الضلال سواء فقال: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب﴾ أي ومن اليهود طائفة من الجهلة العوامّ، الذين لا يعرفون القراءة والكتابة ليطلعوا على ما في التوراة بأنفسهم ويتحققوا بما فيها ﴿إِلاَّ أَمَانِيَّ﴾ أي إِلاَّ ما هم عليه من الأماني التي منّاهم بها أحبارهم، من أن الله يعفو عنهم ويرحمهم، وأن النار لن تمسهم إِلا أياماً معدودة، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، إلى غير ما هنالك من الأماني الفارغة ﴿وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾ أي ما هم على يقين من أمرهم، بل هم مقلّدون للآباء تقليد أهل العمى والغباء.
ثم ذكر تعالى جريمة أولئك الرؤساء المضلّين، الذين أضلّوا العامة في سبيل حطام الدنيا فقال ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ﴾ أي هلاك وعذاب لأولئك الذين حرّفوا التوراة، وكتبوا تلك الآيات المحرفة بأيديهم ﴿ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله﴾ أي يقولون لأتباعهم الأميين هذا الذي تجدونه هو من نصوص التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام، مع أنهم كتبوها بأيديهم ونسبوها إِلى الله كذباً وزوراً ﴿لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ أي لينالوا به عرض الدنيا وحطامها الفاني ﴿فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ أي فشدة عذاب لهم على ما فعلوا من تحريف الكتاب ﴿وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ أي وويل لهم مما يصيبون من الحرام والسحت ﴿وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً﴾ أي لن ندخل النار إِلا أياماً قلائل، هي مدة عبادة العجل، أو سبعة أيام فقط ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً﴾ أي قل لهم يا محمد على سبيل الإِنكار والتوبيخ: هل أعطاكم الله الميثاق والعهد بذلك؟ فإذا كان قد وعدكم بذلك ﴿فَلَنْ يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ﴾ لأن الله لا يخلف الميعاد ﴿أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أي أم تكذبون على الله فتقولون عليه ما لم يقله، فتجمعون بين جريمة التحريف لكلام الله، والكذب والبهتان عليه جل وعلا.
ثم بيَّن تعالى كذب اليهود، وأبطل مزاعمهم بأن النار لن تمسهم وأنهم لا يخلدون فيها فقال: ﴿بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ أي بلى تمسكم النار وتخلدون فيها، كما يخلد الكافر الذي عمل الكبائر، وكذلك كل من اقترف السيئات ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته﴾ أي غمرته من جميع جوانبه، وسدّت عليه مسالك النجاة، بأن فعل مثل فعلكم أيها اليهود ﴿فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي فالنار ملازمة لهم لا يخرجون منها أبداً ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي وأما المؤمنون الذين جمعوا بين الإِيمان، والعمل الصالح فلا تمسهم النار، بل هم في روضات الجنات يحبرون ﴿أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي مخلدون في الجنان لا يخرجون منها أبداً، اللهم اجعلنا منهم يا أرحم الراحمين.
البَلاَغَة: أولاً: قوله ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ جملة مفيدة لكمال قبح صنيعهم، فتحريفهم للتوراة كان عن قصد وتصميم لا عن جهل أو نسيان، ومن يرتكب المعصية عن علم يستحق الذم والتوبيخ أكثر ممن يرتكبها وهو جاهل.


الصفحة التالية
Icon