المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى حال من كفر بلسانه، وحال من كفر بلسانه وجَنَانه، ذكر هنا الجزاء العادل الذي يلقاه كل إِنسان في الآخرة، وما أعدَّه من العقاب العاجل في الدنيا لبعض المكذبين، ثم ذكر قصة إِبراهيم الأوَّاه المنيب، وأَمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ باقتفاء آثاره المجيدة.
اللغَة: ﴿تُجَادِلُ﴾ تخاصم وتحاجُّ ﴿رَغَداً﴾ واسعاً هنيئاً بلا كلفةٍ ولا تعب ﴿أَنْعُمِ﴾ جمع نعمة كالأشد جمع الشدَّة ﴿أُمَّةً﴾ إِماماً جامعاً لخصال الخير ﴿قَانِتاً﴾ مطيعاً خاضعاً من القنوت وهو الطاعة والخضوع ﴿اجتباه﴾ اصطفاه واختاره ﴿حَنِيفاً﴾ الحنيف: المائل عن الأديان الباطلة إلى دين الإسلام، من الحنف وهو الميل.
سَبَبُ النّزول: «لمَّا قُتل حمزة ومثَّل به المشركون في غزة أُحد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين رآه» والله لأُمثلنَّ بسبعين منهم مكانك «فنزلت الآية الكريمة ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ... ﴾ الآية.
التفسِير: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾ أي ذكِّرْهم يوم القيامة حين تخاصم كلُّ نفسٍ عن ذاتها سعياً في خلاصها، لا يهمها شأنُ غيرها ﴿وتوفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ﴾ أي تُعطى جزاءَ ما عملت من غير بخْسٍ ولا نقصان ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ أي لا ينقصون أجورهم بل يُعطونها كاملةٌ وافية ﴿وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً﴾ هذا مثلٌ ضربه الله لأهل مكة وغيرهم، بقومٍ أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فعصوا وتمردوا، فبدَّل الله نعمتهم بنقمة ﴿كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً﴾ أي كان أهلها في أمنٍ واستقرار، وسعادة ونعيم ﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ﴾ أي تأتيها الخيرات والأرزاق بسعةٍ وكثرةٍ من كل الجهات ﴿فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله﴾ أي لم يشكروا الله على ما آتاهم من خير، وما وهبهم من رزق ﴿فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف﴾ أي سلبهم اللهُ نعمة الأمن والاطمئنان، وأذاقهم آلام الخوف والجوع والحرمان ﴿بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ أي بسبب كفرهم ومعاصيهم، قال الرازي: وهذا مثلُ أهل مكة لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينَة والخِصْب، ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكفروا به، وبالغوا في إِيذائه، فعذبهم الله بالقحط والجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام ﴿وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ﴾ أي ولقد جاءهم محمد بالآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة وهو رسولٌ منهم يعرفون أصله ونسبه فلم يصدقوه ولم يؤمنوا برسالته، والآية دالة على أن المراد بهم أهل مكة وهو قول ابن عباس ﴿فَأَخَذَهُمُ العذاب وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ أي فأصابتهم الشدائد والنكبات وهم ظالمون بارتكاب المعاصي والآثام ﴿فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلالاً طَيِّباً﴾ أي كلوا من نِعَم الله التي أباحها لكم حال كونها حلالاً طيباً ﴿واشكروا نِعْمَتَ الله إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ أي واشكروا الله على نعمه الجليلة إن كنتم مخلصين في إيمانكم لا تعبدون أحداً سواه، ثم ذكر تعالى ما حرمه عليهم مما فيه مضرة لهم فقال ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير﴾ أي لم يحرم ربكم عليكم أيها الناس إلا ما فيه أذى لكم كالميتة والدم ولحم الخنزير ﴿وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ﴾ أي وما ذبح على اسم