طريقاً ثالثاً بين المشرق والمغرب يوصله جهة الشمال حيث الجبال الشاهقة ﴿حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ﴾ أي حتى إذا وصل إلى منطقة بين حاجزين عظيمين، بمنقطع أرض بلاد الترك مما يلي أرمينية وأذربيجان قال الطبري: والسَّدُ: الحاجز بين الشيئين وهما هنا جبلان سُدَّ ما بينهما، فردَم ذو القرنين حاجزاً بين يأجوج ومأجوج من ورائهم ليقطع مادة غوائلهم وشرهم عنهم ﴿وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً﴾ أي وجد من وراء السدين قوماً متخلفين لا يكادون يعرفون لساناً غيرلسانهم إلا بمشقة وعُسر قال المفسرون: إنما كانوا لا يفقهون القول لغرابة لغتهم، وبطء فهمهم، وبعدهم عن مخالطة غيرهم، وما فهم كلامهم إلا بواسطة ترجمان ﴿قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض﴾ أي قال القوم لذي القرنين: إن يأجوج ومأجوج - قبيلتان من بني آدم في خلقهم تشويهٌ، منهم مفرطٌ في الطول، ومنهم مفرطٌ في القِصر - قوم مفسدون بالقتل والسلب والنهب وسائر وجوه الشر قال المفسرون: كانوا من آكلة لحوم البشر، يخرجون في الربيع فلا يتركون أخضر إلا أكلوه، ولا يابساً إلا احتملوه ﴿فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً﴾ أي هل نفرض لك جزءاً من أموالنا كضريبة وخراج ﴿على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً﴾ أي لتجعل سدا يحمينا من شر يأجوج ومأجوج قال في البحر: هذا استدعاءٌ منهم لقبول ما بيذلونه على جهة حسن الأدب ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ﴾ أي ما بسطه الله عليَّ من القُدرة والمُلك خيرٌ مما تبذلونه لي من المال ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾ أي لا حاجة لي إلى المال فأعينوني بالأيدي والرجال ﴿أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً﴾ أي أجعل بينكم وبينهم سدا منيعاً، وحاجزاً حصيناً، وهذه شهامة منه حيث رفض قبول المال وتطوَّع ببناء السد واكتفى بعون الرجال ﴿آتُونِي زُبَرَ الحديد﴾ أي أعطوني قطع الحديد واجعلوها لي في ذلك المكان ﴿حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين﴾ أي حتى إذا ساوى البناء بين جانبي الجبلين ﴿قَالَ انفخوا﴾ أي انفخوا بالمنافيخ عليه ﴿حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً﴾ أي جعل ذلك الحديد المتراكم كالنار بشدة الإحماء ﴿قَالَ آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً﴾ أي أعطوني أصبُّ عليه النحاس المذاب قال الرازي: لما أتوه بقطع الحديد وضع بعضها على بعض حتى صارت بحيث تسدُّ ما بين الجبلين إلى أعلاهما ثم وضع المنافخ عليها حتى إذا صارت كالنار صبَّ النحاس المذاب على الحديد المحمي فالتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً ﴿فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ﴾ أي فما استطاع المفسدون أن يعلوه ويتسوروه لعلوه وملاسته ﴿وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً﴾ أي وما استطاعوا نقبه من أسفل لصلابته وثخانته، وبهذا السد المنيع أغلق ذو القرنين الطريق على يأجوج ومأجوج ﴿قَالَ هذا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي﴾ أي قال ذو القرنين: هذا السدُّ نعمةٌ من الله ورحمة على عباده ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي﴾ أي فإذا جاء وعد الله بخروج ياجوج ومأجوج وذلك قرب قيام الساعة ﴿جَعَلَهُ دَكَّآءَ﴾ أي جعله الله مستوياً بالأرض وعاد متهدماً كأن لم يكن بالأمس ﴿وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً﴾ أي كان وعده تعالى بخراب السدِّ وقيام الساعة كائناً لا محالة.
. وهاهنا تنتهي قصة ذي القرنين ثم يأتي الحديث عن أهوال الساعة وشدائد القيامة قال تعالى {