الدعوة إلى الهدى، وبهذه القسوة قابل القول المؤدَّب المهذَّب، وكذلك شأن الكفر مع الإيمان، وشأن القلب الذي هذَّبه الإيمان، والقلب الذي أفسده الطغيان ﴿قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي﴾ أي قال إبراهيم في جوابه: أمَّا أنا فلا ينالك مني أذى ولا مكروه، ولا أقول لك بعدُ ما يؤذيك لحرمة الأبوَّة، وسأسأل الله أن يهديك ويغفر لك ذنبك ﴿إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً﴾ أي مبالغاً في اللطف بي والاعتناء بشأني ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ أي أترككم وما تعبدون من الأوثان وأرتحل عن دياركم ﴿وَأَدْعُو رَبِّي﴾ أي وأعبد ربي وحده مخلصاً له العبادة ﴿عسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً﴾ أي راجياً بسبب إخلاصي العبادة له ألاَّ يجعلني شقياً، وفيه تعريضٌ بشقاوتهم بدعاء آلهتم.. وهكذا اعتزل إبراهيم أباه وقومه وعبادتهم للأوثان، وهجر الأهل والأوطان، فلم يتركه الله وحيداً بل وهب له ذريةً وعوَّضه خيراً ﴿فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ قال المفسرون: لما هاجر إبراهيم إلى أرض الشام، واعتزل أباه وقومه في الله، أبدله الله من هو خيرٌ منهم، فوهب له إسحاق ويعقوبُ أولاداً أنبياء، فآنس الله بهما وحشته عن فراق قومه بأولئك الأولاد الأطهار، ويعقوب ابن اسحاق، وهما شجرتا الأنبياء فقد جاء من نسلهما أنبياء بني إسرائيل قال ابن كثير: المعنى جعلنا له نسلاً وعقباً أنبياء، أقر الله بهم عينه في حياته بالنبوة ولهذا قال ﴿وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً﴾ أي كل واحدٍ منهما جعلناه نبياً ﴿وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا﴾ أي أعطينا الجميعَ - إبراهيم وإسحاق ويعقوب - كل الخير الديني والدنيوي، من المال والولد والعلم والعمل ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً﴾ أي جعلنا لهم ذكراً حسناً في الناس، لأن جميع أهل الملل والأديان يثنون عليهم لما لهم من الخصال المرضية، ويُصلون على إبراهيم وعلى آله إلى قيام الساعة، قال الطبري: أي رزقناهم الثناء الحسن، والذكر الجميل في الناس ﴿واذكر فِي الكتاب موسى﴾ أي اذكر يا محمد لقومك في القرآن العظيم خبر موسى الكليم ﴿إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً﴾ أي استخلصه الله لنفسه، واصطفاه من بين الخلق لكلامه ﴿وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً﴾ أي من الرسل الكبار، والأنبياء الأطهار، جمع الله له بين الوصفين الجليلين، وإنما أعاد لفظ «كان» لتفخيم شأن النبي المذكور ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور الأيمن﴾ أي نادينا موسى من جهة جبل الطور من ناحية اليمين حين كلمناه بلا واسطة ﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً﴾ أي أدنْيناه للمناجاة حين كلمناه قال ابن عباس: أُدني موسى من الملكوت ورُفعت له الحُجب حتى سمع صريف الأقلام قال الزمخشري: شبّهه بمن قرَّبه بعض العظماء للمناجاة حيث كلَّمه بغير واسطة ملك ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً﴾ أي وهبنا له من نعمتنا عليه أخاه هارون فجعلناه نبياً إجابة لدعائه حين قال
﴿واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي﴾ [طه: ٢٩ - ٣٠] جعلناه له عضداً وناصراً ومعيناً ﴿واذكر فِي الكتاب إِسْمَاعِيلَ﴾ أي اذكر يا محمد في القرآن العظيم خبر جدّك «إسماعيل» الذبيح ابن إبراهيم، وهو أبو العرب جميعاً ﴿إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد﴾ أي كان صادقاً في وعده، لا يعد بوعدٍ إلا وفى به قال المفسرون: وذُكر بصدق الوعد وإن كان موجوداً في غيره من الأنبياء تشريفاً وإكراماً،


الصفحة التالية
Icon