يلقيه النهر على شاطئه ويأخذه فرعون عدوي وعدوُّه قال في البحر: ﴿فَلْيُلْقِهِ﴾ أمرٌ معناه الخبر جاء بصيغة الأمر مبالغة إِذْ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي﴾ أي زرعتُ في القلوب محبتك بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك حتى أحبَّك فرعون قال ابن عباس: أحبَّه الله وحبَّبه إلى خلقه ﴿وَلِتُصْنَعَ على عيني﴾ أي ولتُربى بعين الله بحفظي ورعايتي ﴿إِذْ تمشي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ﴾ أي حين تمشي أختك وتتَّبع أثرك فتقول لآل فرعون حين طلبوا لك المراض: هل أدلكم على من يضمن لكم حضانته ورضاعته؟ قال المفسرون: لمّا التقطه آل فرعون جعل لا يقبل ثدي امرأة لأن الله حرَّم عليه المراضع وبقيت أمه بعد قذفه في اليم مغمومة فأمرت أخته أن تتَّبع خبره، فلما وصلت إلى بيت فرعون ورأته قالت: هل أدلكم على امرأة أمينة فاضلة تتعهد لكم رضاعٍ هذا الطفل؟ فطلبوا منها إحضارها فأتت بأم موسى فلما أخرجت ثديها التقمه ففرحت زوجة فرعون فرحاً شديداً وقالت لها: كوني معي القصر فقالت: لا أستطيع أن أترك بيتي وأولادي ولكنْ آخذه معي وآتي لك به كل حين فقالت نعم وأحسنت إليها غاية الإحسان فذلك قوله تعالى ﴿فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ﴾ أي رددناك إلى أمك لكي تُسرَّ بلقائك وتطمئن بسلامتك ونجاتك، ولكيلا تحزن على فراقك ﴿وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم﴾ أي قتلت القبطي حين أصبحت شاباً فنجيناك من غمّ القتل وصرفنا عنك شرَّ فرعون وزبانيته، وفي صحيح مسلم: وكان قتله خطأ ﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً﴾ أي ابتليناك ابتلاءً عظيماً بأنواعٍ من المِحن ﴿فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ﴾ أي مكثت سنين عديدة عند شعيب في أرض مدين ﴿ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى﴾ أي جئت على موعدٍ ووقت مقدر للرسالة والنبوة.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - التشويق والحث على الإصغاء ﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى﴾.
٢ - الإطناب ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي﴾ وكان يكفي أن يقول: هي عصاي ولكنه توسّع في الجواب تلذذاً بالخطاب.
٣ - الاستعارة التصريحية ﴿واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ﴾ أصل الجناح للطائر ثم استعير لجنب الإنسان لأن كل جنب في موضع الجناح للطائر فسميت الجهتان جناحين بطريق الاستعارة.
٤ - الاحتراس وهو عند علماء البيان أن يؤتى بشيء يرفع توهم غير المراد مثل قوله ﴿بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء﴾ فلو اقتصر على قوله ﴿بَيْضَآءَ﴾ لأوهم أن ذكل من بَرص أو بهَق ولذلك احترس بقوله ﴿مِنْ غَيْرِ سواء﴾.
٥ - الاستعارة التمثيلية ﴿وَلِتُصْنَعَ على عيني﴾ تمثيل لشدة الرعاية وفرط الحفظ والكلاءة بمن يصنع بمرأى من الناظر لأن الحافظ للشيء في الغالب يديم النظر إليه فمثَّل لذلك على عين الآخر.


الصفحة التالية
Icon