جاء وقت العذاب قلبنا بهم القرى فجعلنا العالي سافلاً ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ﴾ أي أرسلنا على أهل تلك المدن حجارة صلبة شديدة من نارٍ وطين، شبّهها بالمطر لكثرتها وشدتها ﴿مَّنْضُودٍ﴾ أي متتابعة، بعضُها في إِثر بعض ﴿مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ﴾ أي معلَّمة بعلامة قال الربيع: قد كتب على كل حجر اسم من يُرمى به قال القرطبي: وقوله ﴿عِندَ رَبِّكَ﴾ دليلٌ على أنها ليست من حجارة الأرض ﴿وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ﴾ أي ما هذه القرى المهلكة ببعيدة عن قومك «كفار قريش» فإِنهم يمرون عليها في أسفارهم أفلا يعتبرون؟ قال المفسرون: وقد صار موضع تلك المدن بحراً أُجاجاً يعرف ب «البحر الميت» لأن مياهه لا تغذي شيئاً من الحيوان وقد اشتهر باسم «بحيرة لوط» والأرض التي تليها قاحلة لا تنبتُ شيئاً ﴿وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً﴾ هذه هي القصة السادسة من القصص المذكورة في هذه السورة أي وأرسلنا إِلى قبيلة مدين أخاهم شعيباً، وقد كان شعيب من نفس القبيلة ولهذا قال «أخاهم» ﴿قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾ أي اعبدوا الله وحده فليس لكم ربٌ سواه ﴿وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان﴾ أي لا تنقصوا الناس حقوقهم في المكيال والميزان، وقد اشتهروا بتطفيف الكيل والوزن ﴿إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ﴾ أي إني أراكم في سعةٍ تغنيكم عن نقص الكيل والميزان قال القرطبي: أي في سعة من الرزق، وكثرةٍ من النعم ﴿وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ﴾ أي إِني أخاف عليكم إِن لم تؤمنوا عذاب يومٍ مهلك، لا يفلت منه أحد، والمراد به عذاب يوم القيامة ﴿وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط﴾ أي أتموا الكيل والوزن للناس بالعدل ﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ﴾ أي لا تُنْقصوهم من حقوقهم شيئاً ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ﴾ أي ولا تسعوا بالفساد في الأرض، والعثيُّ أشد الفساد ﴿بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ أي ما أبقاه الله لكم من الحلال خيرٌ مما تجمعونه من الحرام، إِن كنتم مصدّقين بوعد الله ووعيده وقال مجاهد: أي طاعة الله خير لكم ﴿وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ أي ولستُ برقيب أحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم بها وإِنما أنا ناصح مبلّغ، وقد أعذر من أنذر ﴿قَالُواْ ياشعيب أصلاوتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ﴾ لما أمرهم شعيب عليه السلام بعبادة الله تعالى وترك عبادة الأوثان، وبإِيفاء الكيل والميزان، ردّوا عليه على سبيل السخرية والاستهزاء فقالوا: أصلاتك تدعوك لأن تأمرنا بترك عبادة الأصنام التي عبدها آباؤنا؟ إن هذا لا يصدر عن عاقل ﴿أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾ أي وتأمرك بأن نترك تطفيف الكيل والميزان.
قال الإمام الفخر: إِن شعيباً أمرهم بشيئين: بالتوحيد، وترك البخس، فأنكروا عليه أمره بهذين النوعين فقوله ﴿مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ﴾ إِشارة إِلى التوحيد، ﴿نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا﴾ إِشارة إِلى ترك البخس، وقد يراد بالصلاة الدينُ والمعنى: دينُك يأمرك بذلك؟ وأطلق عليه الصلاة لأنها أظهر شعار الدين، وروي أن شعيباً كان كثير الصلاة وكان قومه إِذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا، فقصدوا بقولهم ﴿أصلاوتك تَأْمُرُكَ﴾ السخرية والهزء، كما إِذا رأيت معتوهاً يطالع كتباً ثم يذكر كلاماً فاسداً فتقول: هذا من مطالعة تلك الكتب؟ ﴿إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد﴾ أي


الصفحة التالية
Icon