تشبيه لما يقع منهم من التخليط، ووضع الأفعال والأقوال غير مواضعها بما يقع للمسحور من التخبط والتخليط رتَّب هذه التوبيخات الثلاثة بالتدريج فقال أولاً ﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ ؟ ثم قال ثانياً ﴿أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ ؟ وذلك أبلغ لأن فيه زيادة تخويف، ثم قال ثالثاً ﴿فأنى تُسْحَرُونَ﴾ وفيه من التوبيخ ما ليس في غيره ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بالحق﴾ أي بل جئناهم بالقول الصدق في أمر التوحيد والبعث والجزاء ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ أي كاذبون فيما ينسبون لله من الشركاء والأولاد.
لمَّا بالغ في الحِجاج عليه بالآيات السابقة أعقبها بهذه الآية كالوعيد والتهديد، ثم بيَّن بطلان الشريك والولد بالبرهان القاطع فقال ﴿مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ﴾ أي ما اتخذ الله ولداً مطلقاً لا من الملائكة ولا من البشر ﴿وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ﴾ أي وليس معه من يشاركه في الألوهية والربوبية ﴿إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ﴾ أي لو كان معه إِله - كما زعم عبدة الأوثان - لانفرد كل إِلهٍ بخلقه الذي خلق واستبدَّ به، وتميَّز ملك كلِّ واحد عن ملك الآخر ﴿وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ﴾ أي ولغلب بعضهم على بعض كحال ملوك الدنيا قال ابن كثير: المعنى لو قدر تعدُّد الآلهة لانفرد كلٌ بما خلق، ثم لكان كلٌ منهم يطلب قهر الآخر وخلافه فيعلو بعضهم على بعض وما كان ينتظم الوجود، والمشاهد أن الوجود منتظمٌ متَّسقٌ غاية الكمال فدل على تنزه الله عن الولد والشريك ولهذا قال ﴿سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ﴾ أي تنزّه الله وتقدَّس عما يصفه به الظالمون ﴿عَالِمِ الغيب والشهادة﴾ أي هو تعالى العالم بما غاب عن الأنظار، وبما تدركه الأبصار، لا تخفى عليه خافية من شؤون الخلق ﴿فتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي تقدَّس وتنزَّه عن الشريك والولد ﴿قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ﴾ أي قل يا ربِّ إِن كان ولا بدَّ من أن تُريَني ما تعدهم من العذاب في الدنيا ﴿رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي القوم الظالمين﴾ هذا جواب الشرط ﴿إِمَّا﴾ وكرَّر قوله ﴿رَّبِّ﴾ مبالغةً في الدعاء والتضرع أي ربّ فلا تجعلني في جملة الظالمين فأهلك بهلاكهم قال أبو حيان: ومعلوم أنه عليه السلام معصومٌ مما يكون سبباً لجعله مع الظالمين ولكنه أُمر أن يدعو بذلك إِظهاراً للعبودية وتواضعاً لله ﴿وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ﴾ أي ونحن قادرون على أن نريك العذاب الذي وعدناهم به ولكن نؤخره لحكمة ﴿ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة﴾ أي ادفع إِساءتهم بالصفح عنهم وتجمَّل بمكارم الأخلاق قال ابن كثير: أرشده إلأى الترياق النافع في مخالطة الناس وهو الإِحسان إلى من يسيء إِليه ليستجلب خاطره، فتعود عدواته صداقةً، وبغضه محبة ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾ أي نحن أعلم بحالهم وبما يكون منهم من التكذيب والاستهزاء وسنجازيهم عليه ﴿وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين﴾ أي أعتصم بك من نزغات الشياطين ووساوسهم المغرية على الباطل والمعاصي ﴿وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ﴾ أي وأعتصم وأحتمي بك يا رب من أن يصيبوني بسوء أو يكونوا معي في أموري، كرَّر ذلك للمبالغة والاعتناء بشأن الاستعاذة ﴿حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت﴾ عاد الكلام عن المشركين أي حتى إِذا حضر الموتُ أحدهم وعاين أهواله وشدائده ﴿قَالَ رَبِّ ارجعون﴾ أي قال تحسراً على ما فرط منه: ربِّ ردَّني إلى الدنيا، وصيغة


الصفحة التالية
Icon