الجمع للتعظيم ﴿لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾ أي لكي أعمل صالحاً فيما ضيَّعت من عمري ﴿كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا﴾ ﴿كَلاَّ﴾ كلمةُ ردع وزجر أي لا رجوع إِلى الدنيافليرتدع عن ذلك فإِن طلبه للرعة كلام لا فائدة فيه ولا جدوى منه وهو ذاهبٌ أدراج الرياح ﴿وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ أي وأمامهم حاجزٌ يمنعهم عن الرجوع إِلى الدنيا - هو عالم البرزخ - الذي يحول بينهم وبين الرجعة يلبثون فيه إِلى يوم القيامة قال مجاهد: البرزخُ: الحاجز ما بين الدنيا والآخرة ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور﴾ أي فإِذا نفخ في الصور النفخة الثانية وهي نفخة البعث والنشور ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ﴾ أي فلا قرابة ولا نسب ينفعهم يوم القيامة لزوال التراحم والتعاطف من شدة الهول والدهشة بحيث يفر المرء من أخيه وأُمه وأبيه وصاحبته وبنيه ﴿وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾ أي لا يسأل بعضهم بعضاً عن شأنه لاشتغال كل واحد بنفسه، ولا تنافي بينها وبين قوله
﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [الطور: ٢٥] لأن يوم القيامة طويل وفيه مواقف ومواطن، ففي بعضها يتكلمون وفي بعضها لا ينطقون ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ أي فمن رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة ﴿فأولئك هُمُ المفلحون﴾ أي فهم السعداء الذين فازوا فنجوا من النار وأُدخلوا الجنة ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾ أي زادت سيئاته على حسناته ﴿فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ﴾ أي فهم الأشقياء الذين خسروا سعادتهم الأبدية بتضييع أنفسهم وتدنيسها بالكفر والمعاصي ﴿فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ أي هم مقيمون في جهنم لا يخرجون منها أبداً ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار﴾ أي تحرقها بشدة حرِّها، وتخصيص الوجوه بالذكر لأنها أشرف الأعضاء ﴿وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾ أي وهم في جهنم عابسون مشوَّهو المنظر قال ابن مسعود: قد بدتْ أسنانهم وتقلَّصت شفاههم كالرأس المُشيَّط بالنار، وفي الحديث «تشويه النارُ فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سُرَّته» ﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ﴾ أي يقال لهم تعنيفاً وتوبيخاً: ألم تكن آيات القرآن الساطع تقرأ عليكم في الدنيا؟ ﴿فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ أي فكنتم لا تصدّقون بها مع وضوحها ﴿قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا﴾ أي غلبت علينا شقاوتنا ﴿وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ﴾ أي وكنَّا ضالين عن الهدى بسبب ابتاعنا للملذّات والأهواء ﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا﴾ أي أخرجنا من النار وردُنَّا إلى الدنيا ﴿فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ أي فإِن رجعنا إلى الكفر والمعاصي بعد ذلك نكون قد تجاوزنا الحدَّ في الظلم العدوان.
أقروا أولاً بالإِجرام ثم تدرجوا من الإِقرار إلى الرغبة والتضرع فجاء الجواب بالتيئيس والزجر ﴿قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ﴾ أي ذلوا في النار وانزجروا كما تُزجر الكلاب ولا تكلموني في رفع العذاب قال في التسهيل: اخسئوا: كلمة تستعمل في زجر الكلاب ففيها إِهانةٌ وإِبعاد ﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الراحمين﴾ قال مجاهد: هم بلال، وخباب، وصهيب وغيرهم من ضعفاء المسلمين كان أبو جهل وأصحابه يهزءون بهم ﴿فاتخذتموهم سِخْرِيّاً﴾ أي فسخرتم منهم واستهزأتم بهم ﴿حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي﴾ أي حتى نسيتم بتشاغلكم بهم واستهزائكم عليهم عن طاعتي وعبادتي {وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ


الصفحة التالية
Icon