لتهويله كأنه قيل: ولولا تفضله تعالى عليكم ورحمته بكم لكان ما كان ممّا لا يحيط به نطاق البيان ومن جملته أنه تعالى لو لم يشرع لهم ذلك لوجب على الزوج حدُّ القذف مع أن الظاهر صدقه لاشتراكه في الفضيحة، ولو جعل ضهاداته موجبةً لحد الزنى عليها لفات النظر لها، ولو جعل شهادتها موجبة لحد القذف عليه لفات النظر له، فسبحانه ما أعظم شأنه، وأوسع رحمته، وأدقَّ حكمته.. ثم بيَّن تعالى «قصة الإِفك» التي اتهمت فيها العفيفة البريئة الطاهرة أم المؤمنين عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها بالكذب والبهتان فقال ﴿إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك﴾ أي جاءوا بأسوء الكذب وأشنع صور البهتان وهو قذف عائشة بالفاحشة قال الإِمام الفخر: الإِفك أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء، وقد أجمع المسلمون على أن المراد ما أُفك به على عائشة وهي زوجة الرسول المعصوم ﴿عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ﴾ أي جماعة منكم أيها المؤمنون وعلى رأسهم «ابن سلول» رأس النفاق ﴿لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ﴾ أي لا تظنوا هذا القذف والاتهام شراً لكم يا آل أبي بكر ﴿بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ لما فيه من الشرف العظيم بنزول الوحي ببراءة أم المؤمنين، وهذا غاية الشرف والفضل قال المفسرون: والخير في ذلك من خمسة أوجه: تبرئة أم المؤمنين، وكرامة الله لها بإنزال الوحي في شأنها، والأجر الجزيل لها في الفِرية عليها، وموعظة المؤمنين، والانتقام من المفترين ﴿لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم﴾ أي لك فردٍ من العُصبة الكاذبة جزاء ما اجترح من الذنب على قدر خوضه فيه ﴿والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ﴾ أي والذي تولى معظمه وأشاع هذا البهتان وهو «ابن سلول» رأس النفاق ﴿لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أي له في الآخرة عذاب شديد في نار جهنم ﴿لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾ أي هلاَّ حين سمعتم يا معشر المؤمنين هذا الافتراء وقذف الصديقة عائشة ﴿ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً﴾ أي هلاّ طنوا الخير ولم يسرعوا إلى التهمة فيمن عرفوا فيها النزاهة والطهارة؟ فإن مقتضى الإِيمان ألاّ يصدق مؤمنٌ على أخيه قوله عائب ولا طاعن قال ابن كثير: هذا تأديبٌ من الله تعالى للمؤمنين في قصة عائشة حين أفاض بعضهم في ذلك الكلام السُّوء، وهلا قاسوا ذلك الكلام على أنفسهم فإن كان لا يليق بهم فأمُ المؤمنين أولى بالبراءة منه بطريق الأولى والأحرى، وري أن امرأة «أبي أيوب» قالت له: أما تسمع ما يقول الناسُ في عائشة! قال: نعم وذلك الكذب، أكنت فاعلةً ذكل يا أم أيوب؟ قالت: لا والله قال فعائشة والله خير منك، ﴿وَقَالُواْ هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ﴾ أي قالوا في ذلك الحين هذا كذبٌ ظاهر مبين ﴿لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ﴾ أي هلاّ جاء أولئك المفترون بأربعة شهود يشهدون على ما قالوا ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ﴾ أي فإن عجزوا ولم يأتوا على دعواهم بالشهود ﴿فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون﴾ أي فأولئك هم المفسدون الكاذبون في حكم الله وشرعه، وفيه توبيخُ وتعنيف للذين سمعوا الإِفك ولم ينكروه أول وهلة ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدنيا والآخرة﴾ أي لولا فضله تعالى عليكم - أيها الخائضون في شأن عائشة - ورحمته بكم في الدنيا والآخرة حيث أمهلكم ولم يعاجلكم بالعقوبة ﴿لَمَسَّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ﴾ أي لأصابكم


الصفحة التالية
Icon