من الغيظ وسمعوا لها صوتاً كصوت الحمار وهو الزفير قال ابن عباس: إن الرجل ليجرُّ إلى النار فتشهق إِليه النار شهوق البغلة إلى الشعير، وتزفر رفرةً لا يبقى أحدٌ إِلاّ خاف، وتقييد الرؤية بالبعد ﴿مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾ فيه مزيد تهويل لأمرها ﴿وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً﴾ أي وإِذا أُلقوا في جهنم في مكان ضيّق قال ابن عباس: تضيق عليهم ضيق الزُّج في الرُّمح - الزُّج: الحديدة التي في أسفل الرمح - ﴿مُّقَرَّنِينَ﴾ أي مصفَّدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل ﴿دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً﴾ أي دعوا في ذلك المكان على أنفسهم بالويل والهلاك يقولون: يا هلاكنا، نادوه نداء المتمني للهلاك ليسلموا مما هو أشدُّ منه كما قيل: أشدُّ من الموت ما يتمنى معه الموت ﴿لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً﴾ أي يقال لهم: لا تدعوا اليوم بالهلاك على أنفسكم مرةً واحدة بل ادعوا مراتٍ ومراتٍ، فإِن ما أنتم فيه من العذاب الشديد يستوجب تكرير الدعاء في كل حين وآن، وفيه إِقناطٌ لهم من استجابة الدعاء وتخفيف العذاب ﴿قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد التي وُعِدَ المتقون﴾ ؟ أي قل لهم يا محمد على سبيل التقريع والتهكم أذلك السعير خيرٌ أم جنة الخلود التي وعدها المتقون؟ قال ابن كثير: يقول الله تعالى يا محمد: هذا الذي وصفناه لك من حال الأشقياء الذين تتلقاهم جهنم بوجهٍ عبوسٍ وتغيظٍ وزفير، ويلقون في أماكنها الضيقة مقرّنين لا يستيعون حراكاً ولا فكاكاً مما هم فيه، أهذا هيرٌ أم جنة الخلد؟ وهل يجوز أن يقول العاقل: السُكر أحلى أم الصبر؟ قلنا: هذايحسن في معرض التقريع كما إِذا أعطى السيد عبده مالاً فتمرَّد وأبى واستكبر فيضربه ضرباً وجيعاً ويقول على سبيل لاتوبيخ: أهذا أطيب أم ذاك؟ ﴿كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً﴾ أي كانت لهم ثواباً ومرجعاً ﴿لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ﴾ أي لهم في الجنة ما يشاءون من النعيم ﴿خَالِدِينَ﴾ أي ماكثين فيها أبداً سرمداً بلا زوال ولا انقضاء ﴿كَانَ على رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً﴾ أي كان ذلك الجزاء وعداً على ذي الجلال حقيقاً بأن يُسأل ويُطلب لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون، وهو وعدٌ واجب ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾ أي واذكر ذلك اليوم الرهيب - يوم القيامة - حين يجمع الله الكفار والأصنام وكل من عُبد من دون الله كالملائكة والمسيخ قال مجاهد: هو عيسى وعزير والملائكة ﴿فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ﴾ أي فيقول تعالى للمعبودين تقريعاً لعبدتهم: أأنتم دعوتم هؤلاء إلى عبادتكم؟ ﴿أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل﴾ أي أم هم ضلوا الطريق فعبدوكم من تلقاء أنفسهم؟ ﴿قَالُواْ سُبْحَانَكَ﴾ أي قال المعبودون تعجباً مما قيل لهم: تنزَّهت يا الله عن الأنداد ﴿مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ﴾ أي ما يحقُّ لنا ولا لأحدٍ من الخلق أن يعبد غيرك، ولا أن يشرك معك سواك ﴿ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حتى نَسُواْ الذكر﴾ أي ولكن أكثرت عليهم وعلى آبائهم النعمة - وكان يجب عليهم شكرها والإِيمان بما جاءت به الرسل - فكان ذلك سبباً للإِعراض عن ذكرك وشكرك ﴿وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً﴾ أي وكانوا قوماً هالكين، قال تعالى توبيخاً للكفرة ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ﴾ أي فقد كذبكم هؤلاء المعبودون في قولكم إِنهم آلهة ﴿فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً﴾ أي فما تستطيعون أيها الكفار دفعاً


الصفحة التالية
Icon