أتعمد قتله ولكنْ أردت تأديبه، ولم يقصد عليه السلام الضلال عن الهدى لأنه معصوم منذ الصغر وقال ابن عباس: ﴿وَأَنَاْ مِنَ الضالين﴾ أي الجاهلين ﴿فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ﴾ أي فهربتُ إلى أرض مدين حين خفت على نفسي أن تقتلوني وتؤاخذوني بما لا أستحقه ﴿فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً﴾ أي فأعطاني الله النبوة والحكمة ﴿وَجَعَلَنِي مِنَ المرسلين﴾ أي واختارني رسولاً إليك، فإن آمنتَ سلمتَ، وإِن جحدتَ هلكتَ ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي كيف تمنُّ عليَّ بإِحسانك إليِّ وقد استعبدتَ قومي؟ فما تعدُّه نعمة ما هو إلاّ نقمة قال ابن كثير: المعنى ما أحسنتَ إليَّ وربيتني مقابل ما أسأتَ إلى بني إسرائيل فجعلتهم عبيداً وخدماً، أفيفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم؟ وقال الطبري: أي أتمنُّ عليَّ أن اتخذت بني إسرائيل عبيداً؟ ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين﴾ أي قال فرعون متعالياً متكبراً: من هو هذا الذي تزعم أنه ربُّ العالمين؟ هل هناك إلهٌ غيري؟ لأنه كان يجحد الصانع ويقول لقومه
﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨] ﴿قَالَ رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ﴾ أي قال موسى: هو خالق السماوات والأرض، والمتصرف فيهما بالإِحياء والإِعدام، وهو الذي خلق الأشياء كلها من بحار وقفار، وجبالٍ وأشجار، ونباتٍ وثمار، وغير ذلك من المخلوقات البديعة ﴿إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ﴾ أي إن كانت لكم قلوب موقنة، وأبصارٌ نافذة، فهذا أمر ظاهر جلي ﴿قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ﴾ أي قال فرعون لمن حوله من أشراف قومه على سبيل التهكم والاستهزاء: ألا تسمعون جوابه وتعجبون من أمره؟ أسأله عن حقيقة الله فيجيبني عن صفاته، فأجاب موسى وزاد في البيان والحجة ﴿قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين﴾ أي هو خالقكم وخالق آبائكم الذين كانوا قبلكم، فوجودكم دليل على وجود القادر الحكيم، عدلٌ عن التعريف الام إلى التعريف الخاص لأنَّ الأنفس أقرب من دليل الآفاق، وأوضح عند التأمل ﴿وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: ٢١] فعند ذلك غضب فرعون ونسب موسى إلى الجنون ﴿قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ سمَّاه رسولاً استهزاءً وأضافه إلى المخاطبين استنكافاً من نسبته له أي إن هذا الرسول لمجنون لا عقل له، أسأله عن شيء فيجيبني عن شيء، فلم يحفل موسى بسخرية فرعون وعاد إلى تأكيد الحجة بتعريفٍ ثالث أوضح من الثاني ﴿قَالَ رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي هو تعالى الذي يطلع الشمس من المشرق ويجعلها تغرب من المغرب، وهذا مشاهد كل يوم يبصره العاقل والجاهل ولهذا قال ﴿إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي إن كان لكم عقول أدركتم أن هذا لا يقدر عليه إلا ربُّ العالمين، وهذا من أبلغ الحجج التي تقصم ظهر الباطل كقول إبراهيم في مناظرة النمروذ
﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ﴾ [البقرة: ٢٥٨] ولما انقطع فرعون وأُبلس في الحجة رجع إِلى الاستعلاء متوعداً بالبطش والعنف ﴿قَالَ لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين﴾ أي لئن اتخذت رباً غيري لألقينك في غياهب السجن قال المفسرون: وكان سجنه شديداً يحبس الشخص في مكان تحت الأرض وحده لا يبصر ولا يسمع فيه أحداً حتى يموت ولهذا لم يقل «لأسجننَّك» وإِنما قال لأجعلنك من المسجونين لأن سجنه كان


الصفحة التالية
Icon